يحلو لكثيرين القول إنّ ما قبل "ثورة 17 تشرين" ليس كما بعدها. يُقصَد بذلك أنّ النهج الذي كان سائداً في البلاد، على مختلف المستويات، قبل اندلاع التحرّكات الاحتجاجيّة الأخيرة، يفترض أن يكون قد ولّى، وأصبح بمجمله من الماضي.

يبدو ذلك منطقياً، باعتبار أنّ هذا النهج، القائم عرفاً على ​المحاصصة​ والطائفية، هو الذي أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه، وبالتالي فإنّ "​الثورة​" قبل أن تكون على طبقةٍ سياسيّةٍ، أو على شخصيّاتٍ محدَّدةٍ، هي على النظام وتركيبته وهيكليته بالدرجة الأولى.

بيد أنّ كواليس ما تضجّ به الصالونات السياسيّة من مفاوضاتٍ حول شكل وطبيعة الحكومة المقبلة لا يشي بذلك، ولا سيّما في ضوء الرهانات المتصاعدة على اجتماعٍ من هنا أو هناك لحسم الأمور العالقة، تمهيداً لتكليف رئيس حكومة جديد.

ولعلّ الأخطر من كلّ ذلك يتمثّل في "حرب الصلاحيات" التي يبدو أنّ "الثورة" عجزت أمامها، ليعود الحديث عن مصادرة صلاحيّاتٍ من هنا وانقلابٍ على ​الدستور​ من هناك، على خلفيّةٍ طائفيّةٍ ومذهبيّةٍ قبل كلّ شيء...

لا مخالفة...

قبل أكثر من أسبوع، حقّقت "الثورة" أحد أبرز إنجازاتها. نجحت في دفع الحكومة إلى الاستقالة، ولو تمّ ذلك بمبادرةٍ فرديّة من رئيسها ​سعد الحريري​، الذي رغب بإحداث "صدمة إيجابية" على حدّ قوله، "صدمة" تجلّت بوضوح في بعبدا و​حارة حريك​، في ظلّ ما سُرّب عن "استياء" من الخطوة غير المنسَّقة ولا المُتّفَق عليها.

لكن، ماذا حصل بعد الاستقالة؟ حتى اليوم، يبدو أنّ الأمور تراوح مكانها. لم يُكلَّف رئيس حكومة جديد حتى تاريخه، بل إنّ أيّ دعوة إلى ​الاستشارات النيابية​ لم تصدر عن ​قصر بعبدا​، في سابقةٍ من نوعها، وهو ما برّره المكتب الإعلامي ل​رئيس الجمهورية​ بالقول إنّ الظرف الراهن في البلاد يتطلّب "معالجة هادئة" للوضع الحكوميّ.

وبمُعزَلٍ عن تقييم الخطوة من قبل حلفاء وخصوم الرئيس على حدّ سواء، فإنّ الخبراء يؤكدون أنّ الأمر بحدّ ذاته لا يشكّل مخالفة دستورية، باعتبار أنّ الدستور الذي لم يُلزِم رئيس الحكومة المكلَّف بأيّ مهلةٍ لتشكيل حكومته، لم يلزم رئيس الجمهورية أيضاً بأيّ مهلةٍ للدعوة إلى استشارات لتسمية رئيس حكومة جديد، وهو ما "يشرّع" حقّ الرئيس بإجراء مشاوراتٍ مسبقةٍ للاستشارات النيابية الملزمة، وإن أثار الأمر اعتراضاتٍ هنا أو هناك.

لكن ثمّة مفارقة تبدو مثيرة للجدل هنا، فهذه الاعتراضات لم تأتِ حصراً من المتظاهرين في الشارع، ممّن رأوا في البطء الحاصل والذي يرتقي إلى مستوى "المماطلة"، أمراً غير مبشّر، بل ربما "رهاناً" على تعبهم وتململهم. ولكنّه أتى قبل ذلك، من شخصيّاتٍ تدور في فلكٍ طائفيّ معيَّن، وتركّز خصوصاً عند رؤساء الحكومات السابقين، أو الطامحين ل​رئاسة الحكومة​، بما أعاد إلى الواجهة "حرب الصلاحيّات" التي ظنّ كثيرون أنّها أفلت.

توفير للوقت!

لا شكّ أنّ لهؤلاء وجهة نظرهم من الموضوع، فالربط بين التكليف والتأليف أمرٌ قد لا يكون سليماً بالمُطلَق، بل قد يؤسّس لأعرافٍ جديدةٍ في ​المستقبل​، خصوصاً أنّ الدستور ينصّ صراحةً على أنّ رئيس الحكومة هو من يؤلف الحكومة، بالاتفاق مع رئيس الجمهورية، وليس العكس، ولا يجوز بالتالي "ابتزاز" أحد من خلال البحث عن "تسوية" مسبقة للتكليف، لتخييره بين قبول الاتفاق، أو الانسحاب بكلّ بساطةٍ.

لكنّ القريبين من رئيس الجمهورية يردّون على هذا المنطق، برسم "سيناريو افتراضي" كان يمكن أن تذهب إليه الأمور لو تمّت الاستشارات في اليوم التالي لاستقالة الحكومة. ومع أنّه كان بالإمكان أن يقرّر نواب "​8 آذار​" عدم تسمية أحد، وهو حقّهم الدستوريّ، بما لا يمنح أيّ مرشّحٍ للمنصب الأكثرية المُطلَقة، فإنّ هذا السيناريو يقوم على أساس قرار بإعادة تسمية الحريري نفسه، وبشبه إجماعٍ من النواب.

لكن ماذا كان ليحصل بعد تسمية الحريري، من دون أيّ اتفاقٍ مُسبَق؟ بالنسبة إلى الفريق المحسوب على "​التيار الوطني الحر​"، فإنّ ذلك كان سيؤدي إلى "الفراغ" بأبهى حُلَله، لأنّ الحريري سيضطر إلى مواجهة "عُقَدٍ" بالجملة، قد تفوق ما سبق أن واجهه في تشكيل الحكومات السابقة، والذي استغرق أشهراً طويلة، باعتبار أنّ شكل الحكومة مختلف هذه المرّة، وأنّه لو اختار استبعاد الأحزاب مثلاً، سيأتي من يقول له إنه لن يقبل أن يُستبعَد طالما أنّه شخصياً في الحكومة، وهو رئيس حزبٍ سياسيّ فاعل.

من هنا، ولأنّ البلاد في الظرف الراهن لا تحتمل "ترف" انتظارٍ طويلٍ من هذا النوع، يقول "العونيّون" إنّ المشاورات المُسبقة للتكليف، ولو أدّت إلى "نفور" البعض، هي عملياً لمصلحة أيّ رئيس حكومةٍ سيُكلَّف، لأنّ أيّ سيناريو آخر سيقوده تلقائياً إلى الاعتذار، بعد أشهرٍ من هدر الوقت في محاولةٍ لإيجاد المَخارج. ولذلك، يرى هؤلاء أنّ الاتفاق المُسبَق على شكل الحكومة وتركيبتها، لا على تفاصيلها الكاملة وأسماء الوزراء، من شأنه "تحصين" رئيس الحكومة، خصوصاً أنّ لكلّ تركيبةٍ رئيسها المفترض، وبالتالي فإنّ الاتفاق على حكومةٍ سياسيّة يتطلب تسمية أحد، لن يكون بالضرورة نفسه إذا ما تمّ الاتفاق على حكومة تكنوقراط، أو تكنو-سياسية بحسب اتجاه البورصة الحكومية حالياً.

"ثورة" على النظام؟!

في المبدأ، يمكن القول إنّ لكلّ فريقٍ وجهة نظره من موضوع تأخير الاستشارات. فمن ناحية، لا يبدو صحياً أن يأتي رئيس الحكومة بموجب اتفاقٍ مُسبَق على تشكيلته، بما يصادر صلاحيّاته في التأليف، ليصبح بمثابة "وكيل" ينفّذ ما تمّ الاتفاق عليه مُسبَقاً. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ عدم الاتفاق المُسبَق قد يؤدّي إلى هدر الكثير من الوقت، باعتبار أنّ أيّ رئيس حكومة مكلَّف لن يتمكن من الحصول على "ثقة" البرلمان، إذا ما أخلّ بالتوازنات.

في المقابل، ثمّة من يتّهم "التيار الوطني الحر" بفرض "أعراف" جديدة، تحت ستار "الديمقراطية"، وعن طريق "التحايل على الدستور". وبين هؤلاء من يربط فكرة تأجيل الاستشارات، بما سبق لـ "التيار" أن روّجه عند ​الانتخابات الرئاسية​ الأخيرة، من "ديمقراطية" تعطيل نصاب جلسات الانتخاب طالما أنّ النتيجة غير مضمونة، بما "شرّع" الفراغ لأشهرٍ طويلة، وهو ما قد يتكرّر مستقبلاً، وعند أيّ استحقاق.

لذلك، وأبعد من "حرب الصلاحيات" التي أعادت الخطاب الطائفي والمذهبي في أوج "ثورة" تنبذ الطائفية أولاً، قد يكون المطلوب، توازياً مع إعادة النظر بالواقع الحكوميّ، إعادة النظر بما هو أبعد منه، بنظامٍ دستوريّ وقانونيّ يحمل بين طيّاته "ثغراتٍ" من شأنها إفراغ "الديمقراطية" من مضمونها، وبالتالي وضع حدّ لكلّ "الخطوط الحمراء" التي كرّسته على مدى عقود...