من أبرز نتائج ​الحراك الشعبي​ القائم من السابع عشر من الشهر الماضي، هو التحوّل اللافت في خطاب الأحزاب والتيارات السياسية اللبنانية، التي خرجت من دائرة المكابرة إلى المصارحة والبحث عن الحلول العمليّة، لا سيما أنها لم تكن تتوقع أن يخرج المواطنون عليها بهذا الشكل، بغضّ النظر عن رؤيتها الخاصة لكل ما يجري على الساحة اليوم، بين من يعتبر أن هناك مؤامرة خارجيّة ومن يرى أنّها نتيجة لسنوات من الممارسات الخاطئة.

ضمن هذا السياق، ينظر عملياً إلى المشاكل التي تحدث عنها المواطنون على مدى الأيام الماضية، التي لا تتوقف عند نقطة محددة بل تشمل أزمات خاصة وأخرى عامة، تلتقي جميعها عند نقطة جوهرية، هي الشعور بالظلم وعدم العدالة، ما يقودها إلى المطالبة بالتغيير المنشود بأسرع وقت ممكن.

إنطلاقاً من ذلك، بدأت بعض الأصوات داخل الأحزاب والتيارات الفاعلة بالإرتفاع، على قاعدة أنّ تجاهل كل ما يحصل لم يعد يجدي نفعاً، لا سيما أن الذين خرجوا إلى الشوارع ليس في وارد التراجع من دون تحقيق نتائج ملموسة، في مقابل أخرى تُصرّ على الإستفادة من الحراك الشعبي في إطار الصراعات السياسيّة الضيّقة، الأمر الذي سيكون له تداعيات سلبيّة عليها في نهاية المطاف.

لا أحد ينكر أن ليس كل من هم داخل هذه الأحزاب والتيّارات فاسدون، لكن في المقابل ليس منها من يخلو من الفاسدين أو المسؤولين عن الواقع الذي وصلت إليه البلاد، إلا أنّ الواجهة في السابق كانت لهؤلاء، الذين يشعر معظمهم اليوم بالحرج، ويفضّلون الإبتعاد عن المشهد العام، على أمل أن يمرّ ما ينظرون إليه على أساس أنها "موجة عابرة" بسلام، وهو ما ينبغي التوقف عنده مطولاً.

قد يكون من المفيد القول إنّ التعامل مع ​الأزمة​ الراهنة، من قبل من لا يريد خسارة رصيده الشعبي، يحتاج إلى بعض الجرأة، لناحية عدم الإستمرار في تغطية الفاسدين أو المخالفين أو السعي إلى عدم محاسبتهم، لكن من الناحية العملية هذا ليس بالقرار السهل، إلا أنه في المقابل لا يمكن الرهان على أن المواطنين سيقبلون الخروج من الشارع من دون تقديم أثمان كبيرة، خصوصاً أن كرة ​الثلج​ تكبر يوماً بعد آخر، وبالتالي من المفترض التعامل معها على هذا الأساس.

في المشاورات الحكوميّة القائمة، للإنتقال من حركة ​تصريف الأعمال​ التي تتولاها ​الحكومة​ الحاليّة، هناك علامة فارقة في الطروحات التي تقدم، بعيداً عن سعي البعض إلى تحقيق مكاسب سياسية على ظهر الحراك الشعبي للإنقلاب على نتائج ​الإنتخابات النيابية​ الأخيرة أو تنفيذ برامج محدّدة، هي أن معظم القوى المعنيّة باتت تدرك أنها لا تستطيع العودة بالوجوه السابقة، أو تلك التي عليها شبهات أو علامات إستفهام، لا بل إن البعض يرى أن من سيتحمل المسؤولية سيكون عليه عبئاً كبيراً، نظراً إلى أن أيّ حكومة لن تستطيع إرضاء الشارع بسهولة، في ظلّ الأزمة الإقتصاديّة والإجتماعيّة القائمة، التي لا تساعد في التجاوب مع كل ما يطرح من قبل المتظاهرين.

فعليًّا، نجح الحراك الشعبي، منذ الأيام الأولى، في إرباك كل الأحزاب والتيارات، التي شاركت أو كانت مشاركة في ​السلطة​ في السنوات الماضية، بدليل تبدّل الخطاب الذي تتوجه به إلى المواطنين، لكن المطلوب دفعها للقيام بخطوات حاسمة، لا تقتصر فقط على إبعاد المرتكبين عن الواجهة فقط، بل تشمل أيضاً محاسبتهم أمام ​القضاء​ المختصّ، بعد ضمان أن تكون المحاكمات عادلة لا تضيع داخلها القضايا بحجج واهية.

في المحصلة، نجح الحراك الشعبي في تحقيق الكثير من المكتسبات، لكن الطريق لا تزال أمامه طويلة لتحقيق المزيد، بشرط التعامل مع التطورات بواقعيّة بعيداً عن العناوين السياسيّة التي ستدخله في لعبة المحاور، على الأقل في الوقت الراهن، لينتج ربما لاحقاً أحزاباً وتيارات جديدة تحجز مكانها على الساحة العامة.