بعد تقديم رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ استقالته على وقع التحرّكات الشعبيّة الضاغطة والمستمرّة حتى اليوم، تلقّى الكثير من اللوم والعتب من "الشركاء"، خصوصاً من المنتمين إلى قوى "​8 آذار​"، على اعتبار أنّ هذه الخطوة جاءت فرديّة وغير منسَّقة.

ساد انطباعٌ بأنّ هذه القوى ستردّ الاعتبار لنفسها عبر عدم تسمية الحريري مجدّداً ل​رئاسة الحكومة​، وإن فعلت تحت الضغط، فسيكون ذلك بالحدّ الأدنى من الأصوات. توازياً، تسرّبت أسماء بديلة "قيد البحث"، وطُرِحت معادلاتٌ لا يمكن أن تفضي سوى إلى استبعاد الحريري، أسوةً بـ"رموز" حكومة ​تصريف الأعمال​.

لكنّ شيئاً ما تغيّر في ​الساعات​ الماضية. عاد اسم الحريري ليتصدّر البورصة الحكوميّة، أقلّه في صفّ "8 آذار"، حتى أنّ رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ كسر صمته، ليعلن أنّ كتلته ستسمّي الحريري، ولو رفض الأخير، في ضوء ما يُحكى عن "عدم رغبته" برئاسة الحكومة في هذه الظروف.

فما الذي تغيّر؟ وهل أضحى الحريري فعلاً، بين ليلةٍ وضُحاها، المرشّح شبه الوحيد لقوى "8 آذار" لرئاسة الحكومة؟ ولماذا؟!.

ماذا تغيّر؟

لا شكّ أنّ استقالة الحكومة لم تنزل برداً وسلاماً على المكوّنات الأساسية لقوى "8 آذار"، ولا سيما "​التيار الوطني الحر​" و"​حزب الله​". تُرجِم ذلك سريعاً في العَلَن، وعبر وسائل الإعلام. "العونيون" لم يخفوا "صدمتهم" للوهلة الأولى، وخرجوا لمساءلة الحريري عن سبب إقدامه على هذه الخطوة من دون أن تسبقها أيّ مفاوضات جدّية. أما "حزب الله" فذهب أبعد من ذلك، عبر التحذير من "مجهولٍ" يمكن أن تقود الاستقالة البلاد إليه، في مرحلةٍ حسّاسة لا تحتمل ترف أيّ فراغ، ولو كان مُجرَّباً في السابق.

توازياً، لم تتمّ الدعوة إلى ​الاستشارات النيابية​ الملزمة، وتمّ ربط الأمر باتفاقٍ مُسبَق أراده ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ على شكل الحكومة وهيكليّتها. أوحى ذلك بأنّ ثمّة من لا يريد عودة الحريري في هذا الظرف، انطباعٌ عزّزه الترويج لفرضيّة المساواة بين الحريري والوزير ​جبران باسيل​، للقول بأنّ الرجلين إما يبقيان معاً أو يخرجان معاً، وهو "منطقٌ" ردّ عليه الفريق المقابل بالقول بعدم جواز المقارنة، باعتبار أنّ رئيس الحكومة يُقارَن برئيسي الجمهورية ومجلس النواب، لا بالوزراء.

ومع أنّ التسريبات باتت في الأيام الماضية تحمل الشيء ونقيضه، بحيث يُقال تارةً إنّ الحريري غير راغبٍ برئاسة الحكومة، وتارةً أخرى إنّه يسعى لفرض شروطه ويرفض تسمية أيّ بديل، ويُقال طوراً إنّ "التيار" متمسّكٌ به لاعتباراتٍ شتّى، ومن جهةٍ أخرى أنّه يرفض عودته دون باسيل، حتى لا يبدو الأمر وكأنه "هزيمة" للأخير، فإنّ الأجواء العامة توحي بتوافقٍ على أنّ الحريري يبقى "المرشّح الأفضل" للمرحلة. ولعلّ الكلام العلنيّ لرئيس مجلس النواب في هذا السياق كافٍ للدلالة على ذلك، لأنّ الرجل لم يكن ليدلي بمثل هذا التصريح من دون التنسيق مع حلفائه، ولا سيما "حزب الله"، وإن كان سبق أن أطلق نظرية "مع الحريري ظالماً أم مظلوماً".

الخيار الأفضل

عموماً، كثيرةٌ هي الأسباب التي تدفع إلى الاعتقاد بأنّ الحريري يبقى الخيار الأفضل بالنسبة إلى "العهد"، ومن خلفه قوى "8 آذار"، لأسبابٍ واعتباراتٍ شتّى، أوّلها لكون الرجل يبقى، باعتراف القاصي والداني، "الأقوى في طائفته". وعلى الرغم من أنّ الحراك الشعبيّ ينشد نبذ مثل هذه الحسابات الطائفيّة بالدرجة الأولى، إلا أنّها تبقى حتى إشعارٍ آخر ثابتة بالنظر إلى الخصوصيّة اللبنانيّة، وبالتالي فإنّ أصحاب نظرية "الرئيس القويّ" يصرّون على خيار الحريري، انسجاماً مع هذا المبدأ، وأسوةً بوجود كلّ من عون في سدة الرئاسة، وبري في ​رئاسة مجلس النواب​.

وإذا كان ثمّة داخل "8 آذار" من تجرّأ على طرح أسماءٍ بديلةٍ بعضها قريبٌ إليه، على غرار النائب ​أسامة سعد​، وبعضها يندرج في خطٍ وسطيّ، أو حتى قريبٍ من الحريري، على غرار الوزيرة ​ريا الحسن​، فإنّ الأجواء توحي بأنّ كلّ ما طُرِح لم يكن سوى للاستهلاك الإعلامي، أو ربما لـ"ابتزاز" الحريري نفسه في مكانٍ ما، منعاً لاستمراره بفرض الشروط. ويشير العارفون في هذا السياق إلى أنّ "8 آذار" ليست مستعدّة لتكرار تجربتها "المُرّة" مع رئيس الحكومة الأسبق ​نجيب ميقاتي​، الذي وُصِفت حكومته دولياً بـ"حكومة حزب الله"، وجعلت الحزب قبل غيره يترحّم على حكومات الحريري، علماً أنّ الظروف التي أتاحت "الانقلاب" على الحريري يومها لا تبدو متوافرة اليوم، بل إنّ الذهاب إلى "حكومة أمر واقع"، من دون موافقة الحريري ورضاه، يرتقي لمستوى "المقامرة" إن جاز التعبير.

وإذا كانت قوى "8 آذار" ترى في الحريري خياراً وحيداً أيضاً لمواجهة الأزمات الاقتصادية والسياسية، نظراً للعلاقات الدولية التي يتمتع بها، وخشية أن تقع أيّ حكومةٍ لا يرأسها في "عزلةٍ" قد تسرّع في الانهيار، فإنّ الأكيد أنّ هذه القوى تصرّ بالقدر نفسه على رفض صيغة حكومة "التكنوقراط"، كونها تشكّل "انقلاباً" على نتائج ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة برأيها، فضلاً عن كونها "تعرّي" بعض القوى، وبالتحديد "حزب الله"، في مواجهة العقوبات الدوليّة، وهو ما يجعله يفضّل الفراغ على التصديق على حكومةٍ ليس جزءاً منها، علماً أنّ فريقه يمتلك الأكثريّة النيابيّة، وبمقدوره حجب الثقة عن أيّ حكومةٍ لا تلبّي تطلّعاته هذه.

النهج نفسه...

في كلّ الأحوال، يبدو واضحاً أنّ القوى السياسية تتعامل مع الحكومة المرتقبة بالنهج نفسه الذي تعاملت به مع ما سبقها من حكوماتٍ. وقد يكون تأخير الاستشارات النيابية لتسمية رئيس الحكومة كافياً للدلالة على ذلك، خصوصاً أنه بدا بالنسبة لكثيرين بمثابة "ابتزاز" لهذا الاسم أو ذاك، في محاولةٍ إما لفرض الشروط أو رفضها بالحدّ الأدنى.

وإذا كان التوافق على اسم رئيس الحكومة استهلك ما استهلكه، ولم يصل إلى خواتيمه بعد، ثمّة من يتكهّن بأنّ "جرأة" البعض، أو ربما "وقاحته"، لن تثنيه عن الخوض في المعارك على "الحصص" بعد تكليف رئيس الحكومة، وفق ما درجت عليه العادة أيضاً، ليظهر من جديد أنّ الشارع في مكانٍ، و​السلطة​ في مكانٍ آخر.

وأبعد من ذلك، ثمّة من يسأل، هل هناك في السلطة من يتكهّن بموقف الشارع من كلّ ما يحصل؟ هل سيرضى بإعادة تسمية الحريري مثلاً، وهو الذي يصرّ على أنّ "كلن يعني كلن"؟ وهل سيوافق أصلاً على حكومةٍ "تستنسخ" الحكومة السابقة، ولو مع بعض "التنقيح"؟!.