لم يزل ​لبنان​ يرزح تحت وطأة ​الاحتجاجات​ الشعبية على تردي الأوضاع المعيشية وعلى ممارسات أهل ​السلطة​ ومكونات الأحزاب، وأغلبية المسؤولين المشاركين بالسلطة أمعنت ب​الفساد​ والإفساد وصل حد الفجور بنهب أموال الشعب والدولة دون حسيب ولا رقيب نتيجة توزيع الأدوار والمغانم و​المحاصصة​ الطائفية والمذهبية البائدة التي أضحت ​سياسة​ عقيمة من مخلفات انتداب فرنسي لم يسع إلى بناء وطن لكل مكوناته بل إنه حول الوطن إلى أوطان ومكونات طائفية تتناحر وتتهالك لتحصيل امتيازات طائفية على حساب طوائف أخرى الأمر الذي عطل مبدأ المحاسبة والعقاب خوفاً من استنهاض ​طائفة​ السارق.

معظم الأحزاب اللبنانية المشاركة في السلطة تتلطى خلف جماهيرها وشوارعها الطائفية وصار لكل طائفة وسيلة إعلامية تروج للحزب الذي يدعم المنبر الإعلامي، لكنها تستنكف عن الترويج لمفهوم الوطن الحقيقي حتى أضحى الوطن اللبناني عبارة عن مقاطعات حزبية تتعايش معاً بحكم ​المساكنة​ الإجبارية وتستمد دعمها من الولاء لجهات خارجية إقليمية ودولية تفرضها المعادلات الدولية والإقليمية وهذا ما أدى إلى ضياع معنى الوطن ومعه ضاع مستقبل المواطن.

للأسبوع الثالث ينتفض ​الشعب اللبناني​ في الساحات محدثاً ما يشبه الانفجار الشعبي معلنا رفضه لسياسات الطبقة السياسية العفنة التي عاثت بلبنان فساداً ونهباً وعربدة لأكثر من أربعين عاماً لكن ومع هذا الزخم الشعبي المطالب بوطن حقيقي يليق بأبنائه ويحقق آمال الأجيال الصاعدة الحالمة بوطن يحقق له كرامة العيش الكريم ومحاسبة ناهبي ​المال​ العام واسترداد المال المسروق بيد أن شيئاً من مطالب الأجيال المنتفضة لم يتحقق حتى كتابة هذه الأسطر.

الأحزاب المشاركة بالسلطة منهمكة بمعالجة الندوب البنيوية الناجمة عن خطأ تقدير آثار الانفجار الشعبي وعدم البحث الجدي لإيجاد إطار حقيقي لملاقاة المطالب الشعبية المحقة الرافضة لسياسات المحاصصة الطائفية.

ها هو الأسبوع الثالث هلّ على الانتفاضة ولا أثر لعلاجات حقيقة ولا إصلاحات سياسية ولا اقتصادية ولا مطالب تتحقق بل نستطيع القول: إن الطبقة السياسية الفاشلة لم تزل تتمسك بمراكز السلطة وذلك للحفاظ على مكتسباتها السلطوية ومنافعها المالية.

بيد أن تلك الطبقة السياسية لم تزل حتى اللحظة تستميت باستباحة المحظور، تستعمل وبشكل سافر سلاح التلاعب النقدي من خلال مصارف متواطئة مع أهل السلطة في محاولة مكشوفة ودنيئة لتدجين الناس بينما الشعب خرج من القمقم ولن يعود إليه.

لا شك أن العامل الخارجي دخل على خط مطالب الناس المقهورة فاستقالة رئيس ​الحكومة اللبنانية​ ​سعد الحريري​ لم تأت كنتاج للضغط الشعبي إنما حقيقة الأمر هو أن قرار الاستقالة جاء بناءً لطلب أميركي مباشر للحريري نفسه الذي نفذ الأمر دون تردد هرباً من تحمل مسؤولية خياراته وسياساته الاقتصادية التي أثبتت عقمها وفشلها وكانت سبباً رئيساً لوصول لبنان إلى حافة الانهيار.

وفي خضم ​الأزمة​ الراهنة التي تواجه لبنان والبحث عن تشكيل حكومة جديدة يتشارك فيها الجميع ومعالجة ​الآثار​ الناجمة عن الوضع المتأزم والمشحون، ظهر إصرار الرئيس المستقيل على تشكيل حكومة غير سياسية تستبعد حزب اللـه من أي حكومة جديدة ومع هذا الإصرار بدأت تتكشف النيات الحقيقية التي دعته إلى قرار الاستقالة وهو قرار أميركي بامتياز.

وبيّن محاولات حثيثة لثني الرئيس الحريري عن قراره والقبول بحكومة إنقاذية تكنوسياسية وبين إصراره على رفض كل المقترحات المقدمة، دخل لبنان مرحلة التخبط والمراوحة في دائرة مفرغة وربما تدوم لوقت طويل فالبعض يصور المشكلة الحاصلة تكمن بتكليف شخصية ترأس الحكومة العتيدة، والبعض الآخر يشير إلى عقدة شكل الحكومة العتيدة، أما الطبقة العفنة فهي تحاول إعادة التركيبة ذاتها التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه، بينما المشكلة الحقيقية تكمن بانفصام المسؤولين عن الواقع وإنكارهم الإقرار بتخلفهم عن اللحاق بجيل جديد رافض لكل ما سلف من تجارب فاشلة أثبتت عقمها في بناء وطن.

ولأنه جيل حالم بوطن حقيقي يتطلع إلى دولة تحترم كرامة وعيش الإنسان استطاع فرض نفسه كواقع شبابي جديد سبق كل الطبقة التي قبضت على السلطة في لبنان لأكثر من أربعين عاماً توجت بالمحاصصة والفساد اللذين أديا إلى فشل ذريع في مشروع بناء وطن حقيقي خصوصاً بعد تجاهلهم وتغاضيهم عن تقدم ثورة العلم التي جعلت من ​العالم​ بمنزلة قرية صغيره يتسابق فيها جيل ​الشباب​ بنقل المعلومة بسرعة فائقة تمكن الشبان من مشاهدة حياة الإنسان في دول أخرى تحترم ممارسة الحكم بشفافية ومحاسبة الفاسدين وذلك عبر وسائل التواصل، الأمر الذي يحتم علينا مجاراة ثورة المعلوماتية وأخذ العبر منها بينما الطبقة العفنة الفاسدة المتحكمة بزمام الوطن ومفاصله لم تزل مواظبة على القراءة في كتاب الزعامة الأبدية والتبعية وبقيت متخلفة عن قراءة الترجمة الفعلية لمعنى انتفاضة جيل المعلوماتية و«السوشل ميديا».

الملاحظ غياب أي معالجة فعلية من قبل الرؤساء الثلاثة، ​رئيس الجمهورية​ ميشيل عون ورئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ ورئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ سعد الحريري، ونستطيع القول إن الرؤساء الثلاثة يعيشون حالة انفصام عن الواقع المستجد وكأن شيئاً لم يتغير على حين أن لبنان أضحى مهدداً بالانهيار الاجتماعي والاقتصادي واستطراداً السياسي.

لابد لنا من الإشارة إلى أن ​أميركا​ بالتنسيق مع العدو الإسرائيلي استطاعت الدخول إلى الساحة السياسية من سم الإبرة وركب موجة المطالب الشعبية والضغط باتجاه تعطيل أي حكومة تضمن مشاركة حزب اللـه فيها.

ونتيجة الرعونة التي أبداها الرؤساء الثلاثة في معالجة الأزمة يتسلل الخوف الآن من تحويل المطالب الشعبية المحقة إلى مطالب أميركية سياسية للنيل من ​المقاومة​ اللبنانية وتحديداً من حزب اللـه.

على الرغم من تحقيق لبنان بفضل مقاومته الباسلة انتصاراً مدوياً على العدو الإسرائيلي وتحقيق توازن الردع تحولت معها المقاومة إلى لاعب إقليمي ومشارك أساسي في ​تقرير​ مستقبل الصراع مع العدو الإسرائيلي في المنطقة، فإن الجلي هو أن هدف الأميركي الصهيوني سلب انتصار المقاومة اللبنانية وعلى الساحة اللبنانية تحديداً.

وأمام هذا الصورة فإننا نستطيع القول: إن مطلب مكافحة الطائفية والفساد والنهب بلبنان قد وضعت ب​ثلاجة​ التوازنات الإقليمية والدولية بانتظار فرضها بواسطة قوة يمكنها تغيير المعادلات القائمة.

لبنان دخل مرحلة المراوحة النشطة غير المباركة بانتظار ظهور وتفعيل قوة مؤهلة وقادرة على تغيير المعادلات.