لن يتعب المحتجّون في حراكهم. رغم تراجع الأعداد، يواصل المتظاهرون نشاطاتهم في أكثر من منطقة ​لبنان​ية، وخصوصاً في ​وسط بيروت​، و​طرابلس​. مما يعني أن رهان القوى السياسية على تراجع الإحتجاجات هي حسابات في غير مكانها. لكن الواقعية تفرض قراءة المشهد من كل جوانبه، لمعرفة ما هي الخطوة التالية؟ .

إذا إستمرّ الحراك في إحتجاجاته، بالطريقة ذاتها التي تحصل حالياً، وبقيت القوى السياسية تتعاطى بنفس التصرفات تجاهه، فإنّ اللبنانيين جميعهم يدفعون الأثمان الموجعة. لا يعني ذلك أن المسؤولية تقع فقط على المحتجّين، بل تتحمّلها اولاً القوى السياسية، بإعتبار انها تملك مبادرة تأليف ​الحكومة​ والمضي قدماً بخطوات إصلاحيّة جذريّة، مروراً بوضع قانون ​انتخابات​ عصري عادل على اساس لبنان دائرة واحدة وفق النسبيّة، أو بإعتماد الدوائر الكبرى: خمس او ست دوائر. عندها يمكن إجراء انتخابات نيابيّة مبكرة، مما يحقق مطالب الحراك.

لا يمكن لقادة الحراك المجهّلين والمعلومين أن يعترضوا على سلوك ​السلطة​ الإيجابي في حال توافره. على الأقل سيميّز ​اللبنانيون​ بين المحق والمخطئ في صناديق الإقتراع.

الآن، يظهر تلكؤ القوى السياسية في تعاطيها الجدّي مع المتظاهرين، رغم أهميّة مضمون خطاب ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ الأخير، وبنود رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ التي أدرجها مكتب المجلس على جدول أعمال الجلسة التشريعيّة. فلماذا لم يتلقّفها الحراك؟ كان من المفترض ان تتشكّل قيادة مركزية له لتفاوض من موقع القوّة السلطات التشريعية والتنفيذية. لكن سبق لرئيس الجمهورية أن قال امام وفد إعلامي: أريد ​ممثلين​ عن الحراك لأتناقش معهم، أين هم؟.

اذا كان الحراك يعتبر أنّ مطالبه واضحة، فقد ادرجها رئيس ​المجلس النيابي​ في خطتّه. فلماذا لا يشكّل الحراك وفداً لمناقشته بطروحات جوهرية؟ في حال جرت مأسسة الحراك، فإنه يستطيع أن يفرض شروطاً سياسية وتقنية وتشريعية. لا يمكن المطالبة بإصلاحات من دون تشريع قوانين مطلوبة. كيف يمكن فرض الانتخابات من دون قانون عادل جديد؟ من يُقرّ القوانين؟ أليس المجلس النيابي؟!.

تحتاج المقاربة الوطنيّة البنّاءة الى التعاطي بالمنطق والعقل، لا بالشعارات ولا بالعواطف وحدها. إستطاع الحراك ان يحقّق إنجازات مهمّة حتى الآن. لكن الوضع الإقتصادي في لبنان يفرض عليه وعلى القوى السياسية التصرف بمسؤولية وطنية. فلنفترض أن السلطة إستمرت في تجاهلها للمطالب، بينما واصل المتظاهرون القيام بنشاطاتهم: ماذا بعد؟ هل يتحمل البلد مزيداً من الآلام الإقتصاديّة التي يقع ضحيتها كل اللبنانيين دون إستثناء.

تراهن قوى السلطة على سلبيّة مستدامة لقادة الحراك، برفض المبادرات واستمرار ​التظاهرات​ الى فرض العصيان او ​قطع الطرقات​. ستزداد النكبة الإجتماعيّة في لبنان، وتتوسّع مساحات التشكيك بجدوى الحراك، أو إسقاط اتّهامات بحق قادته. لكن مدّ اليد مطلوب الى شركاء في الوطن، تمثّل احزابهم جمهورا عريضاً: ماذا لو قررت أحزاب ان تتحد بالنزول الى الشارع ايضاً، لعرض قوّتها الشعبيّة؟ هل سنصبح امام شارعين وطنييْن؟!.

لا أحد يستطيع نكران حجم ​الحراك الشعبي​ الذي تثبته الساحات، كما لا يمكن لأحد أن يغض النظر عن حجم تمثيل الأحزاب. مما يؤكّد وجوب التلاقي في منتصف الطريق. فهل تتقدم القوى السياسية بخطوات الى الأمام تحظى بإعجاب المواطنين؟ يبدأ المسير بتأليف الحكومة. فإذا كانت مسؤولة والتزمت بتنفيذ أجندة مطلبية شعبية، وعاقبت الفاسدين وأعادت أموالا للخزينة العامة، ونفذّت مشاريع عالقة، عندها ستحظى بتأييد كل اللبنانيين. لا يهم عند الشعب ان كانت الحكومة جامعة أو تمثل قوى الأكثريّة النيابيّة. لا يعني اللبنانيين إسم ومكونات الحكومة بقدر ما يعني عملها وانجازاتها السريعة للناس. لكن يستوحب الأمر بعد تأليف الحكومة فترة ترقّب لعملها، ومحاسبتها بعد أشهر قليلة لا غير.

ان الإيجابية مطلوبة من الكل، لأنّ المواطن اللبناني يريد حلولاً سريعة لا تتحمّل الإنتظار تحت طائلة الهلاك الإقتصادي والمعيشي. ان تباشير الحلول تبدأ بحوار سريع وبنّاء بين السلطة والحراك لفرض أيّ تغيير تحت سقف المؤسسات وتجنّب الذهاب الى فوضى.