منذ انطلاق "​الحراك الشعبي​" في لبنان الشهر الماضي، طُرحت الكثير من النظريات والفرضيات حول حيثياته وخلفياته، بين من اعتبره بمثابة "ثورة لبنانية خالصة" تأخر أوانها كثيراً، وبين من رأى فيه في المقابل بذور "مؤامرة" حطّت في لبنان.

وإذا كان القسم الأول انطلق من أنّ مقوّمات ​الثورة​ متوافرة منذ زمن، وأنّ ​الشعب اللبناني​ استيقظ متأخراً ليطالب بالحدّ الأدنى من حقوقه البديهية، فإنّ شريحة لا بأس بها، توقفت عند ما اعتبرته "تحريفاً للبوصلة" من خلال التصويب على قوى معيّنة دون غيرها، ما أدّى إلى انسحاب البعض من الشوارع بعد الأيام الأولى.

وفيما بقي الغرب صامتاً ومتأمّلاً لفترة لا بأس بها، خرج وزير الخارجية الأميركي ​مايك بومبيو​ في عطلة نهاية الأسبوع بموقفٍ بدا ملتبساً لكثيرين، عندما وظّف الحراك الحاصل لصالح الأجندة الأميركية، داعياً إلى مساعدة الشعب اللبناني على "التخلّص من النفوذ الإيرانيّ".

فما خلفيّات هذا الموقف الأميركيّ؟ وهل يؤدي عملياً إلى "دعم" الحراك، أم "توريطه"، خصوصاًفي ضوء الاتهامات التي يوجّهها البعض إليه، عن سوء نيّة قبل حسنها؟!.

"تقزيمٌ" للحراك!

لا شكّ أنّ الموقف الأميركيّ من الحراك جاء ليعزّز فرضيّة "المؤامرة" التي طرحها البعض، ولو تراجعت أسهمها بشكل لافت في الأيام القليلة الماضية، على اعتبار أنّ تصوير الحراك وكأنّه حصراً ضدّ إيران والهيمنة الإيرانية، وبالتالي الغمز من قناة "​حزب الله​"، لا يخدم الحراك الذي يفترض أنّ أهدافه أبعد وأعمق من سياسة المحاور التي كبّدت لبنان ما كبّدته على مدى سنوات.

فأن يقول بومبيو إنّ واشنطن تريد مساعدة الشعب اللبنانيّ على التخلّص من الهيمنة الإيرانية، ولو استند بذلك إلى بعض الهتافات المناهضة لإيران التي أطلقت على هامش التحرّكات، لأمرٌ مجافٍ للحقيقة، كما يقول بعض الناشطين من مؤيّدي التحركات الشعبية وداعميها، ممّن يلفتون إلى أنّ الحراك لم يخلُ في المقابل من هتافاتٍ أخرى رافضة لتدخّل أيّ دولة في لبنان، ومن ضمنها ​الولايات المتحدة​ نفسها، علماً أنّ الطبقة السياسية بمختلف تفرّعاتها هي من تتحمّل مسؤوليّة كلّ أشكال التدخل التي شرّعتها طيلة السنوات الفائتة.

ويقول هؤلاء إنّ الموقف الأميركيّ الملتبس ينطوي عملياً على "تقزيمٍ" للحراك، يضرّ أكثر بكثير ممّا ينفع، خصوصاً أنّ الفساد الذي يتحرّك اللبنانيون ضدّه مبدئياً هو عابرٌ للاصطفافات السياسية الداخلية والخارجية، المحلية والإقليمية، وهو يشمل المجموعات السياسية غير المحسوبة على إيران قبل المحسوبة عليها، وخير دليلٍ على ذلك التحركات النوعيّة التي شهدتها الأيام الماضية، والتي استهدفت وجوهاً لطالما عُرفت بمعارضة إيران، على غرار رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة الذي اتهمه البعض بمحاولة "تسلق" الحراك في بداياته.

صناعة لبنانية؟!

بالنسبة إلى الناشطين المنخرطين في الحراك، فإنّ الأخير "صناعة لبنانية خالصة" لا يجوز أن يُزَجّ بها في "أفخاخ" السياسة، وتحديداً على خط لعبة المحاور التي لم تعد خافية على أحد، علماً أنّ إحدى نقاط قوة الحراك وفق ما يقولون، تتجلى في "التحالف الخفيّ" لهذه المحاور لمواجهة الإرادة الشعبيّة، تماماً كتحالفها على امتداد السنوات الماضية لتمرير مشاريعها وفق قاعدة ​المحاصصة​، بعناوين فضفاضة على غرار التسوية والشراكة والوحدة الوطنية.

ولعلّ المفارقة التي يتوقف عندها البعض أنّ الموقف الأميركيّ جاء بعد أيامٍ على موقفٍ معارضٍ للتحركات صدر عن إيران، وتحديداً على لسان المرشد الأعلى السيد علي خامنئي اتهم فيه دولاً غربيّة، وفي مقدّمها الولايات المتحدة، بتأجيج الاضطرابات، واصفاً الحراك بأنّه "مخطّط لنشر الفوضى". وإذا كان موقف خامنئي هذا لقي صداه في الساحات، التي نزل إليها كثيرٌ من مؤيّدي إيران على مستوى السياسة الاستراتيجيّة، وسط دعواتٍ وُجّهت إلى إيران والجهات المحسوبة عليها، بتأمين العوامل المانعة لقيام مثل هذا الحراك، قبل "تخوين" المشاركين فيه كما هو حاصل اليوم، فإنّ موقف بومبيو برأي كثيرين جاء ليعزّز وجهة النظر الإيرانيّة بشكلٍ أو بآخر.

وإذا كان القيّمون على الحراك، أو المحسوبون عليه، يصرّون على أنّهم "براء" من مواقف واشنطن وطهران على حدّ سواء، وأنّ الحراك الذي يرفع شعار "كلن يعني كلن" بوجه كل رموز الطبقة السياسية، يرفع الشعار نفسه بوجه كلّ الدول الأجنبيّة التي تفكّر بالتدخّل في لبنان، ثمّة من يسأل عن الموقف الغربيّ عموماً من الأزمة اللبنانيّة، في ضوء ما يُحكى عن "تقاعسٍ" في مكانٍ ما عن دعم لبنان، بل وقوف بعض الدول إلى جانب الحكومة المستقيلة، وإصرارها على ضرورة إعادة تسمية رئيسها ​سعد الحريري​ لتشكيل حكومة جديدة، من دون تزويده بالحدّ الأدنى الذي يمكن أن يسعفه من أجل عبور الأزمة، أقلّه بموجب مؤتمر "سيدر" الذي يُقال إنّ مساعداته تجمّدت في هذا التوقيت الحسّاس.

صندوق بريد؟

يتحمّل النظام الحاكم في لبنان، بتناقضاته المثيرة للجدل، المسؤوليّة الكبرى في تحويل البلد على مدار السنوات إلى ما يشبه صندوق البريد الذي يتمّ من خلاله تبادل الرسائل بين هذا المحور وذاك، أو بمعنى أشمل، ساحة حرب توظَّف غالباً لتصفية الحسابات، وهو ما حصل مراراً وتكراراً، ربطاً بالكثير من الاستحقاقات الإقليمية والدولية.

من هنا، يمكن قراءة المقاربة الغربية للحراك الشعبي الذي شهده لبنان أخيراً، من هذه الزاوية بالتحديد، بعدما تجاهل المعنيّون على مدى سنوات، وجود إرادة شعبية منفصلة عن المزاج العام الذي يسعى للتحكّم بكلّ شيء، تماماً كما يمكن تفهّم وجود محاولات من هذا الطرف أو ذاك لاستغلال ما حصل لتحقيق المزيد من المكاسب التي تنسجم مع أجندته السياسية.

لكن، وبعيداً عن تقاذف كرة المسؤوليّات، فضلاً عن كرة التخوين المستجدّة والتي بدأ استهلاكها إعلامياً، يبقى التحدّي الأكبر أمام الحراك أن يثبت "استقلاليّته" الفعليّة، وعدم وقوعه في فخّ دعمٍ من هنا أو هناك، خصوصاً أنّ المتربّصين كثر، وينتمون إلى كلّ الأطراف، مهما أنكروا ذلك...