بعد 28 يوماً على بدء التحركات الشعبية في الشارع، بات من الضروري طرح مجموعة من الأسئلة لم يعد من الوارد تأجيل الإجابة عنها، لا سيّما أنّ الأمور بدأت تأخذ منحى أقلّ ما يقال عنه أنه خطير جداً، أقرب إلى الفوضى منه إلى الإصلاح أو التغيير المنشودان.

قد يكون من البديهي القول انّ ​السلطة​ السياسية، بكافة أركانها، تتحمل الجزء الأكبر من المسؤوليّة عن الواقع الراهن، خصوصاً أنها كانت تتعامل، على مدى سنوات طويلة، وكأن ليس هناك من شعب ينبغي الالتفات إلى مطالبه، بدل الاستفادة من تحويرها ضمن المعارك الطائفيّة والمذهبيّة، وهو ما يُفسر عجزها منذ اللحظة الأولى أمام التحوّل الذي انفجر بوجهها، لكن ماذا بعد؟!.

من يحلم أو يعتبر أن الفرصة قائمة أمام إسقاط كل التركيبة السياسية يعيش في عالم بعيد عن الواقع، ولا يدرك حجم تجذّر ​النظام اللبناني​ الذي ينبغي التعامل معه على أساس أنه صلب جداً، وبالتالي الرهان على تغييره ينطلق من عملية تراكميّة، كما لا المعادلات الحقيقيّة القائمة فعلياً في البلاد، التي تفرض عليه التعامل الموضوعي القادر على تأمين نتائج ملموسة.

انطلاقاً من هذه النقطة، ينبغي على القيادات الصادقة في ​الحراك الشعبي​، بعيداً عن القوى السياسية التي تسعى إلى ركوب الموجة، القيام بمراجعة ذاتيّة بأسرع وقت ممكن، كيّ لا تتحول إلى جزء من المشكلة التي من الضروري معالجتها، لا سيما أنّ أوجاع المواطنين باتت ورقة في البازار السياسي القائم على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

في هذا السياق، قد يكون من الضروري السؤال عمّا إذا كان المواطنون خرجوا إلى الشارع للمطالبة بتشكيل ​حكومة​ تكنوقراط أو حكومة حيادية من مستقلين، أو خرجوا للدعوة إلى إقرار ​قانون انتخاب​ جديد وانتخابات نيابية مبكرة، أو حتى الذهاب إلى إسقاط النظام الطائفي برمّته، نظراً إلى أن أغلب من يتحدثون، عبر ​وسائل الاعلام​، كانت مطالبهم اقتصاديّة واجتماعيّة بالدرجة الأولى.

قد يظنّ الكثيرون، وهم على حق، بأن ليس هناك من إمكانيّة للفصل بين المطالب الاقتصاديّة والاجتماعيّة والطروحات السياسيّة، لكن من الناحية العمليّة لم تذهب القوى الفاعلة في الحراك الشعبي، حتى الآن، إلى تقديم خارطة طريق واضحة المعالم، تطلب من المواطنين تأييدها أو رفضها أو تعديلها، على قاعدة أنّ هذا الأمر سيؤدّي إلى انقسامها، بسبب عدم الاتفاق حتى على قانون انتخابي جديد، يكون المدخل الحقيقي نحو التغيير، إلا أنّ هذا الواقع لا يمكن أن يستمرّ، لأنّ الإصرار على الغموض، في ​القيادة​ والمطالب الجامعة، لن يقود إلا إلى الفوضى التي سيدفع ثمنها المواطنون الموجوعون أولاً وأخيراً.

عملياً، الحراك ليس هو المحرّك الأقوى على الساحة المحليّة، ومن يظن أنّه هو المسؤول عن تنظيم عمليّات ​قطع الطرقات​، التي حصلت يوم أمس بعد حديث ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​، منفصل عن الواقع، نظراً إلى أنّ أوجاع المواطنين أو مطالبهم لم تعد إلا مجرّد ورقة في البازار السياسي القائم في البلاد، بين قوى الثامن والرابع عشر من آذار، حيث يريد الفريق الثاني الانقلاب على نتائج ​الانتخابات​ النيابيّة الأخيرة، في حين يرفض الفريق الأول الاستسلام أمام هذا الانقلاب، ويهدّد بقلب الطاولة على السيّاسات الاقتصاديّة والماليّة القائمة منذ سنوات طويلة.

في المحصّلة، الحراك اليوم أمام لحظة مصيريّة، عنوانها الحفاظ على موقعه بعيداً عن الصراع السياسي القائم، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من خلال تحديد قائمة مطالب واضحة وتشكيل قيادة معلنة، حتى ولو أدّى ذلك إلى انسحاب مؤيّدي بعض الأحزاب التي تسعى إلى ركوب موجته، مهما كان البرنامج الذي تقدّمه.