لم تعد التحذيرات من خطرٍ وشيكٍ قد يجد ​اللبنانيون​ أنفسهم في قلبه، مجرّد تهويلٍ يلجأ إليه البعض للهروب إلى الأمام، في ضوء ​الأزمة​ السياسية المستفحلة على كلّ المستويات، وسط غياب أيّ آفاق لحلول ممكنة أو مخارج متوافرة.

التهويل أضحى واقعاً في مكانٍ ما، وهو ما أثبتته مستجدّات اليومين الماضيين، أمنياً بالدرجة الأولى، مع بدء الأمور بالخروج عن السيطرة في الساحات، التي يكاد بعضها يتحوّل إلى ساحات حربٍ تشتعل فجأةً من دون سابق إنذار، تماماً كما حصل بعد الحوار التلفزيوني ل​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​.

ولا يبدو الواقع السياسيّ أفضل حالاً، إذ لا تزال الصورة ضبابيّة جدّاً، بعد أكثر من عشرة أيام على استقالة ​الحكومة​، من دون اتفاقٍ واضح على شكل وهيكليّة الحكومة الجديدة، ما يترك الاستشارات لتكليف رئيسها "معلّقة" حتى إشعارٍ آخر، في وقتٍ لا يبدو "ترف" الانتظار خياراً مطروحاً من الأصل.

الحراك "مُخترَق"؟!

صحيح أنّ عملية "تخوين" الحراك الشعبيّ انطلقت منذ اليوم الأول للاحتجاجات، من دون أن تستند إلى أدلّةٍ أبعد من فرضية "المؤامرة" التي باتت مملّة لكثرة استهلاكها، إلا أنّ ذلك لا يمنع من طرح بعض علامات الاستفهام حول "السلوكيّات" التي يلجأ إليها بعض المحسوبين على "الحراك"، والتي تضرّ به في مكانٍ ما أكثر ممّا تنفع.

وإذا كان من البديهيّ أنّ أحداً لا يستطيع نكران أحقية المطالب التي نزل الناس من أجلها وفي سبيلها إلى الشوارع، خصوصاً أنّ الأزمات أو المآسي التي يعيشها اللبنانيون أكثر من أن تُعَدّ أو تُحصى، فإنّ أحداً لا يستطيع أن ينكر أيضاً وجود الكثير من "المتسلّقين" الذين يحاولون حرف هذا الحراك عن مساره وإضاعة بوصلته، بما يساعدهم على تحقيق مصالح سياسيّة منسجمة مع "أجندتهم" الخاصة.

ولعلّ ما حصل أثناء وبعيد المقابلة المتلفزة لرئيس الجمهورية كافٍ لطرح الكثير من علامات الاستفهام، بمُعزَلٍ عن مضمون حديث الرئيس الذي قد يكون مثيراً للجدل و​النقاش​، إلا أنّ ما كان لافتاً أنّ مظاهر "الغضب" كانت مُعَدّة سلفاً، ولو على نطاقٍ ضيّق، قبل أن تتمدّد "الشرارة" بشكلٍ عفويّ، علماً أنّ معظم المتظاهرين الغاضبين، الذين باشروا ب​قطع الطرقات​ قبل انتهاء المقابلة، لم يكونوا قد تابعوها أصلاً، فيما استند بعضهم في احتجاجهم إلى عباراتٍ اقتُطِعت من سياق المقابلة بشكلٍ بدا مجتزَأً، من دون أن يتوقّفوا في المقابل عند "الإيجابيّات"، ولو أنّ الشعب لم يعد يثق بالسياسيّين، ويصدّق وعودهم.

وإذا كان يُسجَّل لـ"الحراك" في المقابل، "استنفاره" لرفض اتهامات التدخّل الخارجيّ، بعد شيوع معلوماتٍ صحافيّةٍ عن "مفاوضات" تجري مع "ممثّلين" عنه، دخلت ​فرنسا​ على خطّها، فإنّ ثمّة مِنَ المحسوبين عليه في المقابل، من "يورّطه" بشكلٍ أو بآخر، كما حصل مثلاً في مشهد فتح الطريق أمام النائب السابق ​وليد جنبلاط​ ونجله تيمور في ​الكولا​. فإذا كان سقوط الدم يبرّر السماح لـ"البيك" بالمرور، فلا شيء يبرّر لأصحاب شعار "كلن يعني كلن" التهليل لـ"الزعيم"، بل التقاط صور "السلفي" معه، بما يطيح بكلّ "أسطورة" حراكٍ يسعى أصلاً إلى وضع حدّ لمبدأ "الزعامات".

أين ​السلطة​؟

لا يعني ما سبق أنّ الحراك، بكلّ فروعه، بما فيها تلك التي تُصنَّف في خانة الاستغلاليّين والمستقلّين، يتحمّل أيّ مسؤولية في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، لأنّ الفرصة ما كانت لتسنح لهؤلاء للقيام بشيء، لو أنّ السلطة السياسية وفّرت للشعب الحدّ الأدنى من مقوّمات ​الحياة​ الكريمة واللائقة، أو لو أنّها استوعبت الحراك في أيامه الأولى، وتعاطت معه بالمسؤوليّة المطلوبة.

على العكس من ذلك، ثمّة من يتّهم السلطة بأنّها حتى اليوم، وبعد مرور زهاء شهر على ​الاحتجاجات​، لا تزال تتصرّف وكأنّ الأمر عبارة عن "موجة" لا أكثر ولا أقلّ، فتراهن تارةً على "تململ" المحتجّين، وتارةً على تغيّر "الظروف"، لعودة المشهد إلى ما كان عليه قبل ١٧ تشرين الأول الماضي. وقد تكون "المماطلة" التي تمارسها السلطة لتشكيل حكومة جديدة خير دليلٍ على ذلك، وإن كانت تتذرّع بأنّ الدعوة إلى الاستشارات لتكليف رئيس الحكومة يجب أن يسبقها اتفاق على شكل الحكومة وهيكليّتها، اتفاق كان يفترض أن ينضج في ٢٤ ساعة نظراً للظروف الاستثنائية والدقيقة التي تمرّ بها البلاد.

وإذا كانت السلطة وجدت في ردود الفعل السلبية على مقابلة الرئيس عون دليلاً على وجود من يحرّك الشارع في مكانٍ ما، من الخصوم السياسيين لـ"التيار الوطني الحر" أولاً، خصوصاً أنّ رئيس الجمهورية وجّه خلال اللقاء رسائل رمزيّة كثيرة، من بينها التمهيد لفكرة استبعاد الوزير ​جبران باسيل​ عن الحكومة المقبلة بشكلٍ أو بآخر، فإنّ ثمّة في المقابل من يعتبر أنّ الإطلالة لم تكن موفّقة، وكان بالإمكان تفاديها، وبالتالي تفادي النتائج والتداعيات التي أفرزتها.

ويقول أصحاب هذا الرأي إنّ عون، وإن حاول ملاقاة المحتجّين في منتصف الطريق، ومدّ يده إليهم في مكانٍ ما، ولكن وفق مقاربته الخاصة للأزمة، إلا أنّه لم يقدّم توازياً أيّ "خريطة طريق" للحلّ، حتى أنّ الإطلالة لم تكن مناسبة لتحديد موعدٍ للاستشارات الملزمة كما اعتقد كثيرون، بل فتح الطريق أمام "مهلة" قد تمتدّ أياماً، وهو ما لم يكن ممكناً أن يلقى صدى طيّباً لدى المحتجّين. وإذا كان صحيحاً أنّ بعض مضمون حديث عون تعرّض لـ"التحريف" بشكلٍ أو بآخر، إلا أنّ هناك من "يتحفّظ" أيضاً على خروجه عن السيطرة في مكانٍ ما، مستعيداً صورة "جنرال ​الرابية​" بشكلٍ أو بآخر، وإن شكّل ذلك مادة مديح بالنسبة لمناصريه.

لا للعودة إلى الوراء!

بين اختراق الحراك وضياع السلطة، الأكيد أنّ الحديث عن خطر لم يعد عبارة عن "تكهّنات"، بل بات مستنداً إلى الكثير من الوقائع والمعطيات الملموسة.

وإذا كانت التحديات الماثلة أمام الحراك والسلطة كثيرة، وتقتضي إدراكاً للمسؤوليّة منعاً لإضاعة كلّ ما تحقّق في الأسابيع الماضية، فإنّ الأكيد أنّ ​سياسة​ الهروب إلى الأمام لم تعد تنفع، والتصعيد لمجرّد التصعيد لم يعد يُجدي.

باختصار، قد يكون على الحراك "تنقية" نفسه أولاً لقطع الطريق أمام المصطادين بالماء العكر، لكن على السلطة في المقابل، التعاطي بمسؤوليّة أكبر، والكفّ عن المماطلة والتسييس، تحدٍ قد لا يكون يسيراً، لكنّه أكثر من ضروري، حتى لا تعود عقارب ​الساعة​ إلى الوراء، والوراء هنا ليس ما قبل ١٧ تشرين فقط، بل زمن التسعينات ودهاليزها...