مرّت أربعة أسابيع على إندلاع "الإنتفاضة" الشعبية في ​لبنان​. إستطاع الحراك في البداية أن يجذب اللبنانيين إلى عناوين مطلبيّة محقّة، ويدغدغ كل الطبقات الإجتماعية. حصلت نقاشات عفوية ضمن منظومات معظم القوى السياسية حول أحقيّة الحراك، وشرعيّة المطالبات، فحصل إرباك داخل أجسام تلك القوى، بعد دفاع عدد من "النخبويين" عن ال​تظاهرات​. جلس عدد كبير من الحزبيين على "التلّة" يراقبون مسار الشارع. لم تكن هي الصدمة بقدر ما كان المشهد الشعبي جاذباً. لكن سقطة المتظاهرين الاولى كانت في الشتائم التي أُطلقت خلال الأيام الأولى.

واذا كانت القوى السياسية إحتوت الإرباك تدريجياً لإستعادة زمام المبادرة، فإنها لم تضع خطة سياسية او ميدانية للتعامل مع المستجّدات، سواء أكان الحراك عفوياً، أو كانت قياداته تُترجم اجندة داخلية بأبعاد خارجية.

بالمقابل كان الشارع يشهد خروج موجات شعبية منسجمة في العناوين المطلبية، ومتفرقة بشأن التفاصيل: ماذا بعد؟ لا يوجد خطة عمل بعد إستقالة ​الحكومة​. من يقود الحراك؟ لم يقنع الجواب بأنّ ​القيادة​ هي لكل متظاهر ثائر. لا ينطبق مضمون هذا الجواب على الواقع السياسي، خصوصا انّ أحزابا تشارك في الحراك وتدفعه الى الأمام: هل تخلّت عن مشاريعها؟ بالطبع لا. تلك الأحزاب وفي الطليعة "​القوات​" يسعون لتقليص نفوذ التيار "الوطني الحر"، ويريدون أن يفرضوا ضعف خصمهم الفعلي "​حزب الله​".

رغم إستقالة الحكومة، تواصل الكباش في الشارع لفرض حكومة تكنوقراط، تسمح بإبعاد وزير الخارجية في الحكومة المستقيلة ​جبران باسيل​ وتمنع توزير "حزب الله" بشكل مباشر. يحقق هذا الهدف حلم خصوم "الوطني الحر" و"حزب الله"، تحديدا "القوات". لكن أجندة تيار "المستقبل" تختلف عن برامج غيره. يريد رئيسه ​سعد الحريري​ ان يكون بعيداً عن تداعيات أيّ انهيار مالي في لبنان. لقيت خطوته ترحيباً في الشارع، لكن "الشيخ سعد" يريد ان يبقى ممسكاً بزمام المبادرة الحكوميّة. كيف يحقق هدفه؟ هو يعرف ان ترؤس الحكومة العتيدة حاجة له، لكنه كان يسعى في شرطه فرض حكومة تكنوقراط أن يخاطب الحراك اولاً والعواصم الدوليّة ثانياً، كي يحظى بضمانة داخليّة، وخارجيّة تؤمّن إيرادات ماليّة لإنقاذ لبنان وتجنيبه الانهيار المالي. يردّد مقربون منه كلاماً: لا يمكن ان نكون على رأس حكومة لا تملك قدرات وقد تسقط مرة أخرى في الشارع نتيجة الضغوطات الشعبيّة والسياسيّة.

في البداية أُعجبت عواصم غربية وعربية بتظاهرات لبنان. كان الإعتقاد أن الشعب سيُسقط موقع "حزب الله". عبّر عن ذلك صراحة ​جيفري فيلتمان​ في مقال أشاد فيه بمشهد لبناني جديد. كانت ​واشنطن​ تراقب أداء ​الجيش اللبناني​ الذي ما إن قرّر التدخل لفتح الطرق حتى جاء التحذير الأميركي من مواجهة المؤسسة العسكريّة للمتظاهرين. تزامن ذلك مع حديث سياسي في لبنان عن توجيه أميركي لقيادات في الحراك، بالتزامن مع تواصل عواصم خليجيّة مع رموز في ​المجتمع المدني​ تربطها بها علاقات مميزة. بينما لا ينكر أحد علاقة "القوّات" بالأميركيين والخليجيين. لا يعني كل ذلك ان تلك العواصم حركّت ​التظاهرات​ او دفعت الناس الى الإحتجاجات. قد تكون دخلت على خط التوظيف لا غير لتحقيق أجندات لا علاقة للحراك الشعبي بها، لا من قريب ولا من بعيد.

بالنسبة الى الحزب "التقدمي الإشتراكي" تختلف المقاربة، لأنّ مطّلعين يرون في موقف النائب السابق ​وليد جنبلاط​ بأنه يهدف الى تحقيق أمرين: أولاً، الإقتصاص من خصومه وتحديداً باسيل، وثانياً، إستيعاب الشارع الدرزي وإعادة إستنهاض القواعد الحزبيّة في ساحة الموحّدين ​الدروز​ في مرحلة قد تقوّي النائب ​تيمور جنبلاط​ كقيادي صاعد بعد تململ شعبي درزي واضح في الآونة الأخيرة.

تتزاحم الأجندات والأهداف بين كل فريق وآخر، بينما هموم الناس تكمن في بناء دولة وطنيّة عادلة تُبعد عنهم ​الفساد​ والاهوال المعيشيّة. لكن الحراك عاجز عن بلورة قيادة قادرة وواقعية تتّجه نحو فرض رؤى سياسية بنّاءة في مجتمع معقّد. لماذا لم يلتقط الحراك ما طرحه رئيس ​المجلس النيابي​ نبيه بري: قانون انتخابات على اساس دائرة واحدة، ​الغاء الطائفية​ السياسية، وطرح ​الدولة المدنية​. علما ان بري فرض على جدول اعمال ​الجلسة التشريعية​ بنوداً مهمة تتعلق بمكافحة الفساد؟!.

بدت الفوضى واضحة في مسار ​الحراك الشعبي​ وكأنّ ​الفراغ السياسي​ هو المطلوب من خلال الدعوة لمنع عقد المجلس النيابي جلسته. لم تستطع كل محاولات البارزين في الحراك من ضبط مسار "​الثورة​" ولا توجيهها. قد يصح القول ان كل حراك في بداياته يمر بفوضى، لكن لبنان بلد معقد طائفيا ومناطقيا ومذهبياً ويحتاج الى مقاربات واضحة وسريعة لا زالت مفقودة.

بالمقابل، ما هي خطّة الأحزاب السياسيّة التي يهاجمها الحراك؟ لا يوجد خطة حتى ​الساعة​، رغم الإنضباط الذي يمارسه جمهورها خصوصا عند ​قطع الطرق​.

لم تقدّم تلك الاحزاب خريطة سياسية متكاملة فيما بينها واضحة المعالم، لينحصر تصرفها في اطار ردّات الفعل. ممّا يعني ان لبنان يشهد على فوضى عند الفريقين: الحراك والأحزاب، ستُنتج الفراغ المخيف ولا تلبّي مطالب اللبنانيين.