في حين كان لبنان يستعد للإحتفال بمئوية ولادة دولة لبنان الكبير، تبددت ألوان المشهد السياسي بسبب سياسات ربع القرن الأخير، الذي أقل ما يُقال فيه أن اغلبية من حكموا هذا البلد، نهشوا من موارده منذ عام 1990 وعلى جثته اليوم اقترعوا.

ويرى البعض ان لبنان انضم منذ 17 تشرين الأول الفائت الى "الربيع العربي"، بفضل الأصوات المطلبية المعيشية المحقّة التي لوّنت ساحاته بلون العلم اللبناني، لأول مرة في تاريخ لبنان، أصوات رمت وراء ظهرها زمن الطائفية وعَلم الحزب وكرامة الزعيم، أمرٌ لفت انظار العالم وأجبر القيادات الأجنبيّة على مراجعة الحسابات حول لبنان وهويّة جمهوريته الثالثة، وتحرّك اللبنانيون في الخارج كما في الداخل، فأخبروا حكومات دولهم التي يعيشون فيها عن سبب انقلابهم على الحكم السياسي التقليدي للبنان، وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولكن مع عناصر ولاعبين جدد. بالأمس كان التركي، اليوم مع السلطة الشرعية.

لا يختلف اثنان ممن يراقبون الوضع في لبنان أن الفراغ الحكومي هو مشكلة لا يمكن حلّها إلا بكثير من الحكمة، لإستيعاب المطالب الشعبية المحقّة. ولكن ​الفراغ الرئاسي​ هو مشكلة كبيرة، إذا ما حصل، أدخل لبنان في أتون الويلات والفوضى، على غرار ما حصل في ليبيا .

ما يظهر في المشهد اليوم هو أن القياديّين في السلطة يقامرون لكسب المواقع والوقت علّه يحفظ لهم مقاعدهم في جمهوريّة ما بعد "​الثورة​". ولكن المشكلة هي أكبر بكثير من مقعد او سلطة، هي تلك الحالة الإقتصادية المهترئة التي وصل اليها لبنان، هذا البلد الإستهلاكي الذي لم يستطع أن يصدّر في حياته سوى الأبجديّة منذ خمسة آلاف سنة، وهو يحيا بفضل السوق المصرفيّة الحرّة وعامل ​السياحة​ التي أُدخلت العناية الفائقة مع حلول هذا العام، فضلاً عن أنه تعرّض لأكبر سرقة في تاريخ الدول من خلال حكومات فاسدة حكمته، ونهبت خزينته وتملّكت شاطئه الرائع وهدمت جباله تحت ضوء ​الشمس​ ولا من يحاسب، فأحتلّ المركز الخامس في العالم في الدين العام. في البداية انطلقت الثورة من جيوب اللبنانيين الفارغة، قادهم الرغيف الى الشارع، وسرعان ما تحوّلت مطالبهم من وظيفة تحفظ لهم كرامتهم، الى تغيير ​النظام اللبناني​ الذي عاش عليه لبنان منذ مئة عام، لكن اللاعبين تغيّروا ودخلت عناصر إقليمية جديدة فضلاً عن الطاقم التقليدي المتمثل بالأحزاب اللبنانية.

لم تكن تعلم "ثورة الواتساب" أن القرار الجائر سوف يُدخل البلد في الفوضى، تحوّل لبنان الى ساحة صراع وكباش إقليمي، أصبح المشهد ضبابيا، لا يمكن رؤية اللاعبين او سماع أصواتهم بسبب صراخ المتألمين والمحرومين من طبابة وتعليم كريم في البلاد. الشارع فاجأ الجميع، ولم يعد باستطاعة الرئيس اعادتهم الى منازلهم على الرغم من الوعود والتطمينات. وأكد المراقبون الدوليّون انه لو لم يتأخر الرئيس في مواجهة شعبه منذ اليوم الأول، لكان من السهل مخاطبتهم وتهدئتهم. وقف المجتمع الدولي وفقة المتفرّج امام المشهد اللبناني، فلا تصريح او نصيحة من دولة، ولا نداء من أمين عام الأمم المتحدة سوى مطالبته مرتين السلطة باللجوء الى الحوار وعدم الإنجرار الى الفتنة والإستماع الى مطالب الشعب. وتحوّلت تقارير ​اليونيفيل​ الواردة من لبنان الى ​نيويورك​ الى مواضيع إنشاء لمسابقات تلاميذ ​المدارس​ تحت عنوان: ذهبت الى الطبيعة، صِف لنا ما شاهدت. تقارير منطقية وواقعية، فاليونيفيل الموجودة في لبنان للفصل بين جهتين متحاربتين، وهي قد ترحل عند إطلاق أول شرارة أمنيّة، حيث لا استعداد لدولة من الدول المشاركة في قواتها بالتضحية بعنصرٍ لديها في سبيل نزاعٍ مهما كانت أهميته. من هنا يجب على كل المحتمينَ بالمنظمة الدولية ان يتقنوا فهم قوانينها قبل التهويل بما يسمى فصل سابع او سادس، او تبشير الناس بأنّ الأمم المتحدة سوف تأتي لنجدتهم، فهي لا تملك جيوشا لحماية الشعوب من حكّامها اذا حصل الخلاف بينهم، وهي اليوم عاجزة عن دفع رواتب موظّفيها وتسديد فواتيرها بسبب عدم دفع الدول لمستحقاتها في المنظمة.

من الواضح اليوم، وبعد شهر على بدء الثورة، انّ الأزمة السياسيّة تحوّلت الى نزاع إقليمي يدفع ​الشعب اللبناني​ وحده ثمنه. ولن يُختتم الصراع بين السلطة والشعب إلا بسيطرة أحد الطرفين، الأميركي او الإيراني على السلطة في لبنان. لم يعد خافياً على أحد تدخلات الدول في الأزمة الراهنة. الكلّ في مأزق، الأميركي كما الإيراني. فهل يتراجع الأميركي عن دعم الحراك في اللحظة الأخيرة؟ ربما لا. فهو لم يستثمر فيها شيئًا، ولن يخسر شيئًا اذا خسر الحراك. وقد أثبتت "الثورات" الأخيرة في العالم ان اميركا تخلّت عن شعوب ثائرة كانت بحاجة اليها مثل فنزويلا .

اما الجانب الآخر المتمثّل بـ"حزب الله" وقوى "الثامن من آذار"، فقد أكّدت جهات دوليّة مقرّبة لـ"النشرة" ان هذا الفريق لم يعد لديه سوى خيارا واحدا، هو حكومة أحاديّة، تعترف بها القوى العظمى المسيطرة على المنطقة، وهي روسيا والصين. فهل هذا السيناريو الذي يُدرس اليوم بين الضاحية وبعبدا سيلقى آذاناً صاغية لدى قيادة الجيش، الذي في حال أصبح هذا الخيار أمرًا واقعًا قد يغرق لبنان في الفوضى؟!. ومن ناحية ثانية، هل ستستجيب لهما روسيا والصين وتدعم برامجهما الإقتصاديّة والتجاريّة، وتساعدهما في حفر آبار نفط لبنان؟!.

الوضع أكثر من مأزوم. العابثون كثُر، لا حل قريب في الأفق، وهو أكثر تعقيداً عند أهل السلطة. في حضن من ومتى ستولد الجمهورية الثالثة، ومن سيكون عرّابها. وهل سيتخلى الغرب الذي صنع لبنان الكبير عن صناعة لبنان آخر يعيش بحدوده الجغرافية لمئة سنة أخرى؟.