لم يأتِ مصطلح ​الثورة​ ال​لبنان​يّة غريبًا أو هجينًا ولا حتى دخيلًا على الواقع المعاش ولا سيّما في السنواتالما ضية في البلدان التي تجري مِن حولنا، ولا حتى عفويًّا بمعنى اللاتحضير، أو مدروسًا بمعنى أنّ خطواته نُسِّقَت عن بعد حتى دقّت ساعة الصفر، بل أتى لأنّه وليدُ شعبٍ عَرَفَ معنى القلم منذ زمنٍ بعيد، وتعامَل مع الكتاب بحرفيّة قلّ مثيلها، وعَرَفَ قيمة المدرسة ولا سيّما الكاثوليكيّة منها، التي قدَّمت للبنان و​العالم​ أرقى الشخصيّات معرفةً وعلمًا وثقافة، وصارت جامعاته مقصدًا لكلّ مجتهدٍ وباحثٍ عن الاجتهاد. ولكن، مع تغيُّر الأحوال ولا سيّما الإقتصاديّة منها، وتضخُّم الأزمات، ومنها الإيديولوجيّة والفكريّة، بَقِيَ الفكر ميّالًا نحو الخروج من تلك القوقعة التي أرادوا سجنه فيها؛ وبَقِيَ الطالب اللبنانيّ الجامعيّ يبحث عن مخرجٍ وبقعة ضوءٍ يرى من خلالها النور ولا بدّ أنّه قد تأثَّر بكلّ الحركات المحيطة القديمة والحديثة والمعاصرة، ولا سيّما ماحصل بالثورة ​الطلاب​يّة الفرنسيّة في أيّار 1968، ولبنان ابنٌ ثقافيٌّ ل​فرنسا​. من هنا، لابدّ من إشاراتٍ ثقافيّةٍ إنسانيّة متجذِّرة في العقل الطالبيّ اللبنانيّ تَحَدَّث عنها فلاسفة وعلماء من فرنسا أو عاصروا تلك المرحلة؛فكان ميشال فوكو وجان بوديار وفرانسوا ليوتارمستلهمين شعارات ​المقاومة​ بالكلمة والفكر واعلاء الصوت حتى تحقيق المطالب دون خوف.

وهذا، برأيي، ما يجب أن يُفعَل بثورةٍ أو من دون ثورة، دون التعدِّي على حريّة الآخر، وممتلكاته، والقيم الأخلاقيّة والإنسانيّة التي تربَّى عليها مجتمعنا. كما واستعان العقل الطالبيّ اللبنانيّ الذكيّ مقولة «تحت حجارة الرصيف أو الشاطئ»أي البحث عن جمال المكان الحقيقيّ. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان شاطئ )​الزيتونة باي​( هدفًا للطلاب ومعهم الكثير باعتباره موقعًا سياحيًّا رائعًا مُنِعوا من اكتشافه لسيطرة فئةٍمعيّنةٍعليه، فتوجَّهوا إليه باعتباره موقعًا لبنانيًّا عامًّا لا يَحِق لفئةٍأن تحتكره لصالحها، وحاولوا اكتشاف الجميل في عمق هذا الشاطئ وليس فقط جمال ​البناء​ وضخامته وفخامته. وعاش الطلاب ومَن معهم كبارًا وصغارًا مقولة «الجمال في الشارع»، فكان واضحًا من خلال تعابير الوجه والرسومات والشعارات التي أُطلِقَت واللوحات المكتوبة حتى تحوَّلت بعض الساحات إلى معارضَ فنيّةٍ وثقافيّة. كما هو حال كلّ مَن نزل إلى الساحات وبطريقةٍ عفويّة تبنِّي مقولة«عِشْ دون وقتٍ ميّت»، فحاولوا القيام بكلّ شيء وكأنّ الثورة «ستنتهي غدًا»، فملأوا الساحات وطالبوا بكلّ شيء اعتبروه مسلوبًا منهم ومن حقوقهم في عيش حياةٍ كريمةٍ ولائقة، فكانت مقولة الثورة الفرنسيّة الطلّابيّة «كن واقعيًّا واطلب المستحيل» معتبرين أنّه لايجب أن نؤجِّل هذا المستحيل إلى أيّ وقتٍآخر؛ فإمّا أن نعيشه ونحقِّقه اليوم ونجعله واقعًا مفروضًا أو يضيع إلى الأبد. فما ذهب خلال العقود الثلاثة الماضية من ضياعٍ وهدرٍ وفسادٍ دون رادعٍ أو ضابطٍما لم يُستطاع توقيفه اليوم فلا سمح الله سنفقده في ثلاثة مثلَّثة لعقودٍ مُقبلة.

أمرٌ آخر مُلفتٌ للانتباه هو أنّ الثورة اللبنانيّة عمومًا والطلّابيّة خصوصًا، كما الكثير من الثورات ولاسيّما الفرنسيّة أنّها تفتقد لشخصٍ أو مجموعة أشخاص يقومون بقيادة الثورة أو التكلُّم باسمها. وهذا دليلُ عافيةٍ وصحّة. فقد تستغلّ ​السلطة​، أيًّا كانت، بروز ظاهرة النجم باعتباره ممثِّلًا للحراك في الشارع وفي وسائل الإعلام، ممّا يُسهِّل عليها كودرة الحراك والتفاوض مع مَن يُمثّله حتى الوصول إلى كَمِّ الحرية والتفاوض على مطالب الثورة المعيشيّة المحقّة حتى ​القضاء​ عليها وتفريغها من جوهرها ومضمونها.حتى ولو فشلت الثورة الطلّابيّة الفرنسيّة ولم تُحقِّق أهدافها لأسبابٍ كثيرة، إلّا أنّ ثورة الطلّاب في الثورة اللبنانيّة يجب ألّا تفشل.

ثورة الطلاب اليوم (وليس المقصود طلاب ​الجامعات​ فقط) بل كلّ طالب كرامة وحرية وعيشة لائقة واحترام للحقوق، هي ثورةٌ ضد المجتمع الذي بدأ وللأسف يفرغ أو يُفَرَّغ من قِيَمه،وقد أدخلوه في غيبوبةٍ أَفقَدَتْه القدرة على ​الحياة​ نتيجة تسليع كلّ شيء وتعليب كلّ شيء حتى الإنسان ليكون ذو مقاسٍ واحدٍ وفكرٍ واحد، كقطيعٍ يعرف أنّ راعيه قد يأكله ولكنّ خوفه وضعفه وموته السريريّ يمنعه من الرفض والصراخ والتغيير.

ثورة اليوم يجب أن تكون لإنقاذ الطفل الصغير والإنسان و​المرأة​، بعيدًا عن التمسُّك بتقاليدَ عفا عنها الزمن وقد تكون خاطئة،) كما اللوحة التي صوّرها الفنان الفرنسي جوزف ديزيريه) مع أهميّة الحفاظ على قيم أخلاقيّة إنسانيّة متوارثة، تُغني الفكر الإنسانيّ اليوم بعيدًا عن يباسة التمسُّك الأخرق بالماضي فقط الذي قد يُنهي مستقبلنا. والبحث عن بوادر الحياة في شرايين وأوردة أبنائنا وطلابنا، وعن حلمٍ ينبتُ في خلايا قلوبهم وأدمغتهم، لا يمكن لأحدٍ أن يأخذه إلاّ مَن زرعه فينا. وليعلم الجميع أنّحجم تفكيرنا لاحدود له، وأنّنا الأدرى بمقاسات أطوالنا وعقولنا، والدعوة لطلاب اليوم ومستقبل الغد ألّاتدعوا أحدًا يقصّ أرجلكم لتتناسب وطول السرير، وكلٌّ منكم مدعو لاختيار المكان والزمان والعلم والمعرفة ليصنعَ حلمًا اليوم وليس غدًا.