من حيث لم يحتسب أو يتوقّع أحد، انتشر كالنار في الهشيم خبر التوافق بين القوى السياسيّة الأساسيّة، وتحديداً "تيار المستقبل" و"​التيار الوطني الحر​" و"​حزب الله​" و"​حركة أمل​"، على اسم الوزير السابق ​محمد الصفدي​، بعد اجتماعاتٍ ماراثونيّة مطوّلة.

وبمُعزَلٍ عن جدّية مثل هذا الخبر، والحيثيّات التي دفعت إلى مثل هذا التوافق، فإنّ الأكيد أنّ تسريبه بالشكل الذي حصل لا يمكن أن يكون بريئاً، خصوصاً أنّ ردّة فعل الشارع الملتهب أصلاً جاءت مطابقة للتوقّعات، بعيداً عن إصرار البعض على المكابرة وتجاهل الواقع.

وإذا كان الخبر المسرَّب أثمر تلقائياً إضافة اسم الصفدي إلى شعارات المتظاهرين، ووضعه في خانة "كلن يعني كلن"، بعدما كان حضوره خجولاً نسبياً، فإنّ علامات استفهامٍ ترتقي لمستوى التعجّب، طُرِحت بقوّة في الكواليس السياسية.

فماذا في خلفيّات طرح اسم الصفدي في هذا التوقيت وبهذا الشكل؟ هل ثمّة من يعتقد أنّ مثل هذه "المبادرة"، لو كانت جدّية، يمكن أن تترجَم على أرض الواقع، أم أنّ الأمر لا يعدو كونه "مناورة" تمهّد لعودة رئيس الحكومة المستقيل ​سعد الحريري​؟!.

خيار غير منطقيّ...

للوهلة الأولى، لم يصدّق أحد الخبر الذي تسرّب على هامش اجتماع الحريري مع كلّ من وزير المال ​علي حسن خليل​ والمعاون السياسي للأمين العام لـ"حزب الله" ​حسين الخليل​، حول التوافق على اسم الصفدي لرئاسة الحكومة المقبلة، التي يفترض أن تكون "استثنائية" في كلّ تفاصيلها، نظراً للوضع الدقيق الذي تشهده البلاد في هذه المرحلة.

ويكفي للدلالة على عدم القدرة على تصديق الخبر، أنّ ثمّة من حاول تفسير الأمر بأنّه مجرّد "تشابه أسماء"، وأنّ الاسم المتوافَق عليه ليس الوزير السابق محمد الصفدي، بل قاضٍ يحمل الاسم نفسه، وربما تنطبق عليه صفات "التكنوقراط" أكثر من شخصٍ سبق أن تسلّم مناصب وزارية بالجملة، فضلاً عن كونه نائباً، يُتَّهَم من كثيرين بـ"قلة الفاعليّة"، ما يجعله برأي كثيرين، غير "مؤهَّل" لإدارة أزمة وطن.

ولعلّ من العوامل التي أسهمت في استغراب الخبر أنّ اسم الصفدي لم يكن مغيّباً بالكامل عن الحراك الشعبيّ، وأنّ ثمّة من وضعه في مقام المتّهَمين بـ"الفساد"، بمُعزَلٍ عن دقّة الاتهام، وذلك على خلفيّة مشروع "الزيتونة باي" والتعدّي على الأملاك العامة، علماً أنّ الصفدي أصدر يومها بياناً رافضاً لـ"تشويه سمعته"، نفى فيه الاتهامات الموجّهة إليه وإلى المشروع، موضحاً أنّ حصّته منه لا تتعدّى ١٧ في المئة.

لكلّ هذه الأسباب وغيرها، رأى كثيرون أنّ التوافق على اسم الصفدي لخلافة الحريري في رئاسة الحكومة لا يمكن أن يكون "منطقياً"، بل ثمّة من فسّره وكأنّه "استفزازٌ" متعمَّد في وجه الشارع، في وقتٍ طُرحت علامات استفهام عن مغزى "التصعيد" الذي تمارسه السلطة، بدل السعي إلى استرضاء الحراك والتعامل ببعض المرونة معه، إلا إذا كانت القوى السياسية لا تزال مصرّة على المكابرة، وتعتقد أنّها يمكن أن تستمرّ وفق النهج نفسه الذي كانت تعتمده قبل الاحتجاجات الشعبيّة.

الحريري "راجع"؟!

عموماً، سواء صحّ أنّ رئيس الحكومة المستقيل هو من اختار الصفدي من ضمن مجموعة أسماء عُرضت عليه، أو أنّه من طرح الاسم من باب "عدم العرقلة" كما سرّبت بعض الأوساط، أو أنّ الصفدي كان بالفعل المرشّح الأفضل بالنسبة إلى "العهد" و"التيار الوطني الحر"، لاعتباره من "المعتدلين" بشكلٍ أو بآخر، فإنّ الأكيد أنّ طرحه وتسريب الخبر، حتى لو جاء وفق قاعدة "جسّ النبض" بافتراض حسن النوايا، حوّل الصفدي إلى "ضحية"، بدليل الاحتجاجات التي وصلت إلى أمام منزله، ما سيؤدّي عملياً إلى "إحراق" اسمه.

بيد أنّ هذا "الإحراق"، برأي كثيرين، لم يأتِ مباغتاً لقوى السلطة، التي يعرف القاصي والداني أنّها تتمتّع بالذكاء الكافي للتكهّن بردّة الفعل التي سيُحدِثها تسريب الخبر، وهي التي تمارس السياسية بكلّ أساليبها المشروعة والملتوية منذ عقود. لذلك، لا يُستبعد أن يكون طرح الاسم مجرّد "مناورة" أريد منها خلط الأوراق من جديد، وإعادة رسم المفاوضات القائمة حول التركيبة الحكوميّة، وفق عنوانٍ واحدٍ وهو ضرورة بقاء سعد الحريري في موقعه.

فمن جهة، ثمّة من يقول إنّ الحريري طرح الاسم، وهو يعرف في قرارة نفسه أنّ الشارع لن يقبله، بدليل ما نُقِل عنه لجهة قوله لمفاوضيه إنّه يعرف أنّ الشارع سيُسقِط الحكومة التكنو-سياسية برئاسة الصفدي، ولكنّه لن يكون المُعرقِل على المستوى الشخصيّ. وبرأي هؤلاء، فإنّ الحريري يظنّ أنّ هذا السيناريو من شأنه أن يقوّي حظوظه للعودة، ويساعده لفرض شروطه بشكلٍ أو بآخر، علماً أنّ الرجل، وبخلاف كلّ ما يروَّج، لا يزال متمسّكاً بمنصبه، ولكنه يخشى غضب الشارع، وخير دليلٍ على ذلك اندفاعه للردّ على كلّ المصادر التي تتحدّث عن اعتذاره تارةً، أو اعتكافه تارةً أخرى.

وفي المقابل، فإنّ تحالف "التيار الوطني الحر" والثنائيّ الشيعيّ، وإن أراد إيصال رسالة بأنّ البحث عن "بديلٍ" للحريري بات مطروحاً بقوّة، خصوصاً أنّ البلد ليس في "ترف" الانتظار إلى ما شاء الله، إلا أنّه أيضاً لا يزال متمسّكاً بالشراكة مع الرجل، لاقتناعه بأنّه يبقى الأقدر على إدارة المرحلة، سواء في الداخل، لكونه يبقى "الأقوى في طائفته"، أو الخارج، نظراً لمروحة العلاقات الإقليمية والدولية التي يتمتّع بها، والتي من شأنها "تحصين" ​لبنان​ ولو بالحدّ الأدنى، مقارنةً مع ما يمكن أن يكون عليه الحال إذا ما تمّ التوافق على اسمٍ آخر، لا يحظى بالامتيازات نفسها، وخصوصاً إذا ما قرّر "تيار المستقبل" عندها أن يكون خارج الحكومة.

من يفكّ "اللغز"؟!

تبقى تسمية الصفدي لرئاسة الحكومة عبارة عن "لغز" لا يبدو فكّه يسيراً. فمن ناحية، يبدو الخيار غير منطقيّ، شكلاً ومضموناً، فيما تشهد البلاد موجة احتجاجاتٍ غير مسبوقة على الطبقة السياسيّة التي ينتمي الصفدي إلى ناديها، ومن ناحيةٍ ثانية، لا يبدو الوقت مناسباً لـ "مناوراتٍ" يقوم بها هذا الطرف أو ذاك لتحسين شروطه التفاوضيّة.

لكن، ماذا لو مضت السلطة في الخيار حتى النهاية؟ ماذا لو حصلت الاستشارات النيابيّة وتمّت تسمية الصفدي رئيساً للحكومة؟ هل ثمّة من يعتقد أنّ الأمر سيؤدّي فعلاً إلى "الانفراج"، أم أنه سيسهم في توسيع هوة "الانفجار"؟ وأين سيتموضع جمهور "المستقبل" في هذه الحال، ولو كان الحريري من "عرّابي" صفقة تسمية الصفدي؟!.

أسئلة كثيرة تبقى بلا جواب، إلا أنّ الأكيد أنّ المطلوب قبل كلّ شيء تغييرٌ في الذهنيّة السياسية، التي توحي كلّ المؤشرات بأنّ "ثورة ١٧ تشرين" لم تزحزحها من مكانها، أقلّه حتى الآن...