ما كاد العام الدِّراسيّ 2019/2020 يبدأ، حتَّى اندلع الحراك الشَّعبيّ في 17 تشرين الأَوَّل 2019، وهو مُتواصلٌ وقد أَطفأَ شمعة الشَّهر الأَوَّل، من دون أَنْ تلوح في الأُفق بوادر فرجٍ قريبٍ، كما وأَنَّ المُتعلِّمين ما زالوا "مُخْتطَفين" على قاعدة القول المأْثور: "الآباء يأْكُلون الحُصرم... والأَبناء يضرسون"!.

واليوم يكاد المُتعلِّمون يفقدون عامهم الدِّراسيَّ، بعد استدراجهم إِلى "لعبة الشَّارع"، وإِغرائهم بلقب "زعيم شارع" يُقفل الطَّريق في وجه الجميع، وجرِّهم إِلى ​الفساد​ بحجَّة مُحاربته، مُتناسين أَنَّ "الولد ولدٌ ولو حكم بلدًا"، ولو حظي أَيضًا بـ"شرف" أَن يقطع الطَّريق أَو يشارك بمعيَّة أَهله أَو رُفقائه أَو الجيل الأَكبر منه... في حجب حقِّ المُرور على الجميع، أَي "كلُّن يعني كلُّن"...

إِنَّ ظاهرة إِقحام المُتعلِّمين في "لبعة الشَّارع" خطرةٌ جدًّا، وكذلك مِن بالغ الخُطورة أَنْ يغيب المُتعلِّم عن مدرسته شهرًا قابلاً للتَّمديد إِلى ما لا نهاية... وهذه الظَّاهرة -إِلى ذلك- سابقةٌ لم نعهدها حتَّى في أَحلك ظروف الحرب اللُّبنانيَّة. فخلال تلك الحرب كُنَّا نتوجَّه إِلى المدرسة كلَّما سنح الوضع الأَمنيُّ بذلك. وحين يتطوَّر الوضع الأَمنيُّ خلال النَّهار ويسوء، ويشتدُّ القصف الصَّاروخيُّ، وتُطلقالقذائف في كلِّ اتِّجاهٍ، كُنَّا في مدرسة الفرير–القلبين الأَقدسين في الجمَّيزة، نقصد الطَّبقة السُّفلى، وضمنًا نفقًا تحت الأَرض، يصل المدرسة الصُّغرى بالكُبرى، على امتداد الطَّريق العامِّ الفاصل بين المبنيَين، إِلى أَنْ يهدأ القصف، فيأْتي ذوونا لاصطحابنا إِلى المنزل. ولكنَّنا لم نغب أَبدًا تلك الفترة الطَّويلة المُتواصلة والمفتوحة، إِذ إِنَّ مدارس ​طرابلس​ مثلاً لم تفتح أَبوابها يومًا، منذ 17 تشرين الماضي وحتَّى الآن!.

كُنَّا في "عزِّ" الحرب نتعلَّم، وفي ظلِّ حكم الميليشيات نتعلَّم، وفي ظلِّ الفساد نتعلَّم...

فيا قائد"الثَّورة" الخفيّ، ويا حضرة "المايسترو" المُختبئ وراء السِّتارة، ويا أَركان الحراك الأَفاضل... هلاَّ سمحتم لأَبنائنا بالعودة إِلى المدرسة؟ ولماذا يكون عهد الميليشيات بين 1975 و1990، والَّتي تحاربونها اليومأَو إِنَّها هي الَّتي تحاربكم بالانضواء تحت لوائكم، أَرحب صدرًا من حراكِكُم في الـ 2019؟. أَم أَنَّ"الثَّورة" لا تكتمل فُصولاً، إِلاَّ بإِقفال ​المدارس​، واستخدام المُتعلِّمين سواتر ترابيَّةً للثَّورة "العليَّة"؟ أَبالجهل نُواجه الفساد أَم بالعلم والمعرفة؟ و"هل يستوي الَّذين يعلمون والَّذين لا يعملون؟"...

إنَّ مِن حقِّ أَبنائنا علينا أَن نُعلِّمهم، وأَن نُحسن حلَّ مشاكلنا السِّياسيَّة والاجتماعيَّة مِن دون إِقحامهم فيها، وأَن نُكفِّر نحن عن ذنوبنا، الَّتي اقترفناها بمعرفةٍ وبغير معرفةٍ، حين أَوصلنا بعض اللُّصوص إِلى المجلس النِّيابيِّ، وحين لم نُسائل مُمثِّلينا حين تنبغي المُساءلة، ولم نجرُؤ حتَّى على القول لهم: "يا مَحلا الكِحل في عُيونكم"...

وإِنَّ تصحيح الخلل من مسؤوليَّة مَن اقترفه، ومِن اللا عدالة تحميل أَبنائنا الوزر في ما اقترفناه نحن خلال نيِّفٍ وثلاثين سنةً مِن عُمرنا ومِن تاريخ الوطن!...

في عهد "الميليشيات" كنَّا ندرسفي المَلاجئ، ونُرفِّه عن النَّفس تحت الأَرض، وحين يهدأُ القصف، نُغادر المَخبأ لاستنشاق غُبار الدَّمار ونسشتمَّ روائح ​الحرائق​، ولو أَنَّها أَخفُّ ضررًا بكثيرٍ، على بيئةٍ نُشعل فيها الإِطارات المطَّاطيَّة في زمن السِّلم... لكنَّ أَحدًا لم يمنع عنَّا يومًا حقَّ الذَّهاب إِلى المدرسة، كي نمنع بدورنا على الآخرين حقَّ التَّنقُّل في أَرجاء الوطن!.

إِنَّ أَخطر ما يتولَّد عن ظاهرة الفساد، هو ذلك الخلل الَّذي يصيب أَخلاقيَّات البشر وقيم المُجتمع، مايُؤَدِّي إِلى ذيوع حالٍ ذهنيَّةٍ لدى الأَفراد، تُبرِّر الفساد وتجد لهم الذَّرائع ما يُبرِّر استمراره، وقد برَّرناه نحن، فلماذا يدفع أَبناؤُنا ثمن أَخطائنا بإِنزالهم إِلى الشَّارع ومنع العلم عنهم؟.

والأَخطر من ذلك، هوأَن تكون ثمَّة بيئةٌ ملائمةٌ تحضن الفساد وتحمي الفاسدين،وقد كنَّا نحن تلك ​البيئة​، فلماذا يدفع أَبناؤُنا الفاتورة عنَّا؟.

إِنَّ مُكافحة الفساد في الأَنظمة الدِّيمقراطية، هي عمليَّة مُستمرَّة ودائمة، لأَنَّ النِّظام الدِّيمقراطيَّ يفترض ممَّا يفترض، انتخاباتٍ حرّةً ونزيهةً. ف​الانتخابات​ قد تكون فرصة لإِزاحة المُفسدين، كما وتفترض فصلاً بين السُّلطات، للحدِّ من استغلال النُّفوذ، وتتطلَّب أَيضًا قضاءً مستقلاً ونزيهًا، يعمل على تطبيق القانون لا على خرقه،ويحمي الأَفراد والجماعات من التَّسلُّط ونهب الأَموال العامَّة، فهل سيبقى أَبناؤُنا في الشَّارع حتَّى نبلغ كلَّ هذه الأَهداف؟ سؤَالٌ برسم الحراك المدنيِّ وقادته المجهولين... وكذلك برسم وزير التَّربية في الحُكومة الجَديدة المُقبلة!.