كانت جلسة خاصة حصلت منذ ثلاثة أشهر، أشار خلالها أحد المطّلعين ال​لبنان​يين الذين تربطهم علاقات مع ​واشنطن​، إلى "فوضى مضبوطة" ستعمّ مناطق لبنانية، تؤدي إلى "إضعاف ​حزب الله​". لم تكن توقعاته مجرد تحليلات، بقدر ما هي إستندت الى معلومات توصلت إليها دراسات حول الاوضاع المعيشية، والإجتماعية، أجرتها دوائر غربية في لبنان. كان الإستنتاج أن "بلداً يعتمد على استيراد معظم حاجياته سيصرخ مواطنوه سريعاً جرّاء فقدان ​الدولار​ من الأسواق، نتيجة عدم وجود إيرادات ولا ​مساعدات​ مالية، ولا قروض كالمعتاد".

أتى مشروع الضريبة على فاتورة الخليوي يفجّر الشارع اللبناني بإحتجاجات إستبقت الحدث الذي تنتظره عواصم غربية. لا يعني ذلك أن ​الحراك الشعبي​ هو صنيعة الخارج، بل هو جاء نتيجة تزايد الضغوط الإقتصادية والنفسية على اللبنانيين، جذب طبقات إجتماعية عدة من مختلف المناطق، إلى أن زاد المتسلّقون عليه، وتدرّج التوظيف السياسي له من قبل أحزاب كانت في صلب حُكم وقرار ​السلطة​ لسنوات تتجاوز أقلها ١٤ عاماً، وبعضها شريك أساسي في إدارة البلاد منذ عام ١٩٩٢. خرجت أعداد كبيرة من صفوف الحراك، وبقي آخرون يتنازعون المساحات "الثورية" ضمناً مع الوافدين الحزبيين.

كل ذلك يخضع الى نقاش داخلي: هل أصبح الحراك واجهة لقوى سياسية تبتّز خصومها، أو تحاكي الخارج؟ وكيف يتصرف "الثوّار" الأصيلون وهم يتفرجون على سرقة الحراك الشعبي الحقيقي؟.

بعد خمسة أسابيع على إندلاع شرارة الحراك، آن أوان السؤال، بصدق وعفوية: ماذا بعد؟ خصوصاً أن النزاع بشأن الحراك صار سياسياً حول عناوين جرّدته من الصفة الشعبية الصافية. يكرّر لبنان هنا ما حصل في ​فرنسا​ نسبياً، عندما دخل اليمين واليسار لإتخاذ حراك "السترات الصفر" مساحة نزاع سياسي مفتوح.

اذا كان النزاع الباريسي محصور بحسابات فرنسية فقط، فإن الخلاف اللبناني يتمحور حول "تدخل العواصم الخارجية" في إدارة الحراك. جاءت مطالعة المسؤول الأميركي ​جيفري فيلتمان​ أمام ​الكونغرس​ في ​الساعات​ الماضية تعزّز من آراء الذين شكّكوا بوجود خفايا تدير او توظّف الحراك. هو تبنّى بشكل واضح المتغيّرات اللبنانية، ودعا للإستناد اليها في إبعاد "حزب الله" عن القرار، من خلال "عدم تدليله"، وهي جملة تحمل مؤشراً لافتاً الى ضرورة مجابهته سياسياً، من قبل الأفرقاء اللبنانيين الآخرين. لكن الأخطر ان فيلتمان رهن المساعدات المالية للبنان "بعدم الإعتماد على حزب الله، بل على المؤسسات"، وهي تحمل رسائل ضمنية للقوى السياسية، خصوصاً ان المسؤول الأميركي أشاد ب​الجيش اللبناني​ "المؤسسة الأكثر إحتراماً في لبنان".

يؤكد كلام فيلتمان ما قيل عن أن الأميركيين اوعزوا الى جهات نافذة في الحراك يتواصلون معها "للبدء بالمطالبة ب​الإنتخابات النيابية​ المبكرة تحت عنوان تغيير الطبقة السياسية الفاسدة، بإعتبار ان ​الانتخابات​ المبكرة في الجو المشحون شعبياً، ستؤدّي الى حصول نتائج مغايرة عما كان منذ عام ونصف العام، وتحديداً في صناديق إقتراع المسيحيين، وتوقع خسارة حلفاء حزب الله منهم"، وهو ما اشار اليه فيلتمان بقوله "تجريد حزب الله من شركائه في البرلمان".

هي خطة ​محكمة​، وإن كانت ليست قدراً. لكن قوّتها تكمن في أنها تحاكي اللبنانيين في ملفاتهم المعيشية الموجعة، بعد إزدياد الضغوط الإقتصادية على كل عائلة وفرد. ولذلك يعتقد المطّلعون أنّ الحرب الإقتصادية هي الانجع بالنسبة الى الأميركيين في تصويبهم على "حزب الله" لدرجة الإيحاء وكأن الحزب هو من يتحمّل مسؤولية ​الأزمة​ المالية والمعيشية في لبنان، وبالتالي عليه تقديم تنازلات تبدأ بالإبتعاد عن الحكومة، لمنع وصول محسوبين عليه الى مراكز القرار والتأثير والإدارة في لبنان. إنها حرب سياسية باتت تتّخذ حراك الناس واجهة لتطبيق خريطة طريق في لبنان مفتوحة على كل الإتجاهات.

ومن هنا لا يعود مستغرباً إصرار قوى سياسية يتقدّمها رئيس الحكومة المستقيل ​سعد الحريري​ على حكومة "تكنوقراط" لترجمة تمنيات العواصم الغربية وربما الخليجية، وان كان هدف الحريري هو نيل الدعم المالي الخارجي الذي يمنع سقوط لبنان، وليس مشاكسة "حزب الله" الذي كانت ولا زالت تربطه به علاقات ودّية وسياسية تجعل الحزب يتمسّك به ل​رئاسة الحكومة​.

واذا كان محلّلون سياسيون دأبوا على القول ان الحريري يربط البلد بأجندة خارجية، وانه قدّم إستقالته بناء على طلب أميركي. لم تُثبت أي حادثة أو إشارة سيناريو الإتهام المذكور، بدليل أن فيلتمان لم يذكر الحريري بأي كلمة، لا سلباً ولا إيجاباً. ويدل هذا التجاهل على عدم تمسّك واشنطن بالحريري رئيساً للحكومة اللبنانية، بل الإنفتاح على غيره مجهولين ومعلومين.

ولذلك لا يُصبح امر رئاسة الحكومة بعد انتخابات نيابية مبكرة يريدها الأميركيون مرهوناً بشخص الحريري بل بشخصيات أخرى. فما هي الأهداف الأخرى من خلال الإصرار على الانتخابات المبكرة؟ وهل مسألة إنتخابات ​رئاسة الجمهورية​ لاحقاً هي الأساس؟ سترصد حينها العيون مفاعيل الود المتبادل بين ​اليرزة​ وواشنطن، خصوصا ان فيلتمان في مطالعته ذاتها ركّز على دور الجيش الذي بقي على مسافة واحدة بين المتظاهرين وباقي الأفرقاء، و"يستحق تحرير المساعدات العسكرية التي وُضعت قيد المراجعة بأسرع وقت". مما يعني بقاء الدعم لتلك المؤسسة لضمان نجاح مهامها نتيجة الرضى عن دورها.