لم يُظهر الروس يوماً أنهم يتدخّلون بالشؤون ال​لبنان​ية. كان سفيرهم النشيط في بيروت الكسندر زاسيبكن كعادته، ينفتح على كل القوى السياسية في لبنان، ويعبّر عن توجهات بلاده بدقّة. أساساً، تميّز السفير المذكور بأنه بات شخصية معروفة عند كل اللبنانيين. لم يتذمّر منه اي فريق على الإطلاق، رغم الموقف الذي اتخذته موسكو في السنوات الماضية بشأن سوريا، والذي إستوجب من زاسيبكن حينها أن يُدافع عن موقف الإتحاد الروسي في بلد يعج بالتناقضات السياسية، وتعدّد الانتماءات والارتباطات الإقليمية. وقتها لعب السفير المذكور دوراً ريادياً.

لم تغيّر موسكو نهجها ازاء لبنان. جمعتها علاقات سياسية وإقتصادية مميزة مع مختلف القوى اللبنانية، لكنها لم تستثمر تلك العلاقات لتصبّ في مصلحتها. بقيت تردد علنا: نحن على مسافة واحدة من كل الافرقاء اللبنانيين. علما ان الروس يعرفون جيداً ان الأميركيين لا يريدون لهم أن يتابعوا خطواتهم "التمدديّة" من سوريا الى لبنان. هذا ما أظهرته مطالعة المسؤول الأميركي ​جيفري فيلتمان​ أمام الكونغرس بشأن إقدام محتمل للصين و​روسيا​ لملء الفراغ في لبنان، في حال انكفأ الأميركيون، لكن موقف فيلتمان لا يعبّر حُكماً عن البيت الأبيض، بإعتبار ان السياسة الاستراتيجيّة للولايات المتحدة مقسومة بين رأيين بشأن العلاقة مع الاتحاد الروسي وادوار موسكو في العالم.

ترغب روسيا بالتمدد الى لبنان، لأنّ وجودها في سوريا يفرض ان يكون لبنان مستقراً وغير مشاكس لسياساتها، كيّ لا يتحول الى خاصرة رخوة في زمن السلم أو الحرب. لا بل ان اهتمام روسيا بلبنان يزداد تدريجياً، لأسباب إقتصاديّة وجيوسياسيّة، خصوصاً بموضوع الثروات الطبيعية التي تهتم بها روسيا. تبلغ نسبة احتياطي الغاز المقدّرة في سوريا ولبنان 11% تقريباً. سبق لموسكو أن أقدمت على إستثمار العمل في مرفأ طرابلس من قبل شركة "روز نفط". ومن هنا ينبع اهتمام الروس و​الصين​يين بأوضاع ​لبنان وسوريا​ بشكل أساسي بعد رصد توجّه الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ للتخلي عن هذه المنطقة للروس، لا للصينيين. لكن "المؤسّسة العميقة" في ​الولايات المتحدة​ ترفض التخلّي لصالح روسيا، وفي هذا السياق يندرج تحذير فيلتمان للكونغرس من تولّي موسكو وطهران وبكّين أمر لبنان.

منذ إنطلاق ​الحراك الشعبي​ في لبنان، رصدت روسيا ما يجري في بيروت. لم يصرّح سفيرها زاسيبكن بأي تصريح. لكن موسكو كانت تسترجع مشاهد أوكرانيا وسوريا تحت عنوان "ثورة الشعب". هي تعلّمت الاّ تتسرع بالحكم قبل معرفة الخلفيّات. لكن مقاربتها للبنان كانت أكثر حذراً خصوصاً بعدما لمست وجود افرقاء سياسيين موزّعين بين الحراك والموقع الآخر. وهي بطبيعة الحال ترتبط بعلاقات متساوية وممتازة مع الجميع: لا يزال الحزب التقدمي الإشتراكي حليفها رغم كل مواقف رئيسه ​وليد جنبلاط​ الماضية بحقّها. وهي تدعم فكرة بقاء رئيس الحكومة المستقيل ​سعد الحريري​ في منصبه، لأنها إعتادت على التعامل معه من دون وجود مشاكل بينهما، إضافة الى علاقاتها الإيجابية مع رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ ورئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ وباقي الأحزاب.

واذا كان موقف وزير خارجية روسيا الاتحادية ​سيرغي لافروف​ الذي فُسّر أنه يدعم حكومة يتولاّها الحريري وتكون تكنو-سياسية، فهي استمعت الى رأي الرئيس اللبناني من خلال شرح قدّمه النائب السابق أمل ابو زيد الذي كرّمه الرئيس الروسي ​فلاديمير بوتين​ في الأيام الماضية. تثق موسكو بأبو زيد الذي قدّر مقرّبون من الحريري انه لعب دوراً في إتخاذ روسيا لموقف لافروف بشأن نوعيّة الحكومة اللبنانيّة. ولهذا أرسل الحريري مستشاره جورج شعبان الى موسكو لعرض موقف "المستقبل" والحصول على دعم روسي ايضاً، بعدما لمس الحريري عدم إهتمام واشنطن به: لم يسمّه فيلتمان ولم يشر إليه خلال مطالعته أمام الكونغرس. ثم جاءت رسالة ترامب الى الرئيس اللبناني تخلو من أيّ إشارة الى نوعيّة الحكومة التي يتمسّك بها الحريري أيّ ​حكومة تكنوقراط​ خالية من السياسيين. فهل أراد رئيس الحكومة اللبنانيّة المستقيل أن يحظى بدعم روسي بشأن خطواته المرتقبة؟ يعرف الحريري وكل القوى السياسية أن جزءاً من الأزمة اللبنانية وخصوصا الإقتصاديّة يتعلّق بملفّ ​النفط والغاز​، ولا سيّما ان فيلتمان أشار بشكل خاص الى هذا العنوان، في وقت تسعى ​إسرائيل​ الى بتّ أمر ترسيم الحدود العالق مع لبنان. ويُتوقع أن يُقدم الروس على خطوات بشأن لبنان تحفظ أمنه وإستقراره، وبالتالي تحسّن من ظروفه الإقتصاديّة. تكمن مصلحة الاتحاد الروسي بفرض الإستقرار اللبناني. هي تعرف ان تأليف حكومة لبنانيّة هو المنطلق. لكنها لم تُعلن بعد عن أيّ خارطة طريق لمؤازرة اللبنانيين. بالإنتظار، هل تُطلق روسيا مبادرة؟ وهل تتفرج واشنطن من دون تدخل؟ لا تزال الأسئلة من دون أجوبة حتى الساعة، لكن المؤكد أنّ الروس لن يتركوا لبنان يقع في أزمات، أو تعج به الفوضى.