في 29 تشرين الأوّل، قدّم رئيس الحُكومة ​سعد الحريري​ إستقالة حُكومته، في مُحاولة لإمتصاص النقمة الشعبيّة التي كانت قد تفجّرت في 17 من الشهر الماضي أيضًا. لكن اليوم، ومع الإقتراب سريعًا من نهاية شهر تشرين الثاني، ما زالت الإنتفاضة قائمة في الشارع، وما زالت مُفاوضات التكليف والتشكيل مُتعثّرة! فكيف يُمكن الخروج من هذا النفق المُظلم الذي بات يُهدّد الأغلبيّة الساحقة من اللبنانيّين، ليس في حقّهم بالعمل والعيش الكريم والحُصول على أبسط الخدمات والحُقوق من الدولة فحسب، إنّما في أمنهم المُجتمعي وحياتهم اليوميّةولقمة عيشهم أيضا؟!.

بعد أيّام على إنطلاق الإحتجاجات في الشارع، كثرت الأقاويل والإتهامات بشأن قيام أحزاب لبنانيّة بركوب مَوجة الإحتجاجات والتظاهرات إنتقامًا من أحزاب داخليّة أخرى، وتنفيذًا لأجندات سياسيّة لا علاقة لها بأصل ​الثورة​ الشعبيّة التي ساهم فيها عدد كبير من اللبنانيّين، لأسباب مَعيشيّة وحياتيّة محض. ومع مُرور الوقت، تحوّل جزء كبير من هذه الإتهامات إلى الخارج. وفي هذا السياق، صار التركيز حاليًا علىوُجود مُؤامرة دَوليّة تُريد ضرب الإستقرار في لبنان، والتسبّب بإنهياره إقتصاديًا وماليًا، لتنفيذ أجندة من الأهداف، بدءًا بإخراج "​حزب الله​" من السُلطة وإضعاف نُفوذه، مُرورًا بدفع لبنان إلى تليين مواقفه من مسألتي ترسيم الحُدود وإستخراج ​النفط والغاز​، وُصولاً إلى إرغام لبنان على المُوافقة على إملاءات "صفقة العصر" المُرتقبة مثل إبقاء ​اللاجئين الفلسطينيين​ على أرضيه، وعلى إملاءات التفاهمات الإقليميّة والدَوليّة المُنتظرة أيضًا، مثل إبقاء النازحين السُوريّين في الدول التي تستضيفهم.

لكنّ وبغضّ النظر عن مدى صحّة هذه الأقاويل والإتهامات، وعن مدى إمكان تنفيذها، لا بُدّ من التساؤل عن الأسباب التي تدفع لبنان الرسمي، إلى السير -وبإرادته الكاملة، بمفاعيل هذه المؤامرة– إنّ صح وُجودها أصلاً، بدلاً من مُواجهتها والقضاء عليها في مهدها!.

ففي مُقابل الإتهامات التي تطلقها بعض الجهات بشأن إنصياع رئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ لمطالب قوى خارجيّة مُتهمة بالتآمر على الوضع اللبناني، يستغرب الرافضون لهذه النظريّة التمسّك بتكليف الحريري، وإلصاق هذه التهمة به في الوقت عينه! وبحسب هؤلاء، إذا كانت الإتهامات بحق رئيس حكومة تصريف الأعمال غير صحيحة، يجب الإقلاع عنها، وتكثيف الإتصالات معه على مدار الساعة، بهدف إيجاد أرضيّة مُشتركة تُخرج لبنان من مأزقه. أمّا إذا كان هذه الإتهامات صحيحة، يجب المُبادرة فورًا إلى تكليف شخصيّة أخرى لتشكيل الحُكومة، لأنّه عندها لا يعود هناك أي قيمة لما يُحكى عن التمسك بإسم الحريري، نتيجة تمثيله للقسم الأكبر من البيئة السنيّة، وبالتالي حرصا على التوازنات الداخليّة، وعلى التفاهمات السياسيّة التي جرى نسجها خلال السنوات القليلة الماضية. وبالتالي، إمّا الحريري مُنصاع لإملاءات الخارج ويجب التخلّي عنه، وإمّا هو الخيار الأوحد المُتاح، ما يستوجب وقف كل أنواع المُناورات والتهويل بالحديث عن حكومة لون واحد، وعن خيارات أخرى غير الحريري، والعمل على التفاهم مع هذا الأخير على أرضيّة وسطيّة إنقاذيّة، لأنّ التجاذبات السياسيّة لا تعني المُواطن اللبناني الباحث عن لقمة عيشه على الإطلاق.

من جهة ثانية، وفي مُقابل النظريّة القائلة بأنّ أي حُكومة مُقبلة، أكانت مُستقلة كليًا أم غير ذلك، لا يُمكنها أن تنال الثقة، ما لم تنال أغلبيّة عدديّة في ​مجلس النواب​ الخاضع لسيطرة الأحزاب اللبنانيّة، تُوجد نظريّة مُقابلة تؤكد أنّ هذا "السيناريو" مُمكن وغير مُستحيل، في حال صفت النيّات، حيث أنّه ليس المطلوب تشكيل حُكومة مُعادية لأي طرف لبناني، بل حُكومة تُركّز كل إهتمامها على إطلاق ورشة مُعالجة الوضعين الإقتصادي والمالي، وعلى مساعي إنقاذ الوضعين المعيشي والحياتي للمواطنين اللبنانيّين. وبالتالي، لا مُبرّر للخوف من حُكومة مُستقلّة، إذا جرى التوافق مُسبقًا على ألا تقوم بإتخاذ أي قرارات سياسيّة، وعلى أن تكون مهمّتها مَحصورة بفترة زمنيّة إنتقالية لإستعادة الثقة.وأصحاب النظرية الداعية إلى إعطاء الحُكومة المُستقلّة فرصتها، يؤكّدون أنّ الأغلبيّة النيابية قادرة أن تطرح الثقة بالحُكومة عندما ترغب، وأن تُصوّت لإسقاطها في أي وقت، في حال خروج هذه الحُكومة عن المسار الإقتصادي المرسوم لها. ويُذكّر أصحاب هذه النظريّة أنّه عشيّة 7 أيّار 2006، كانت الحُكومة في لبنان في موقع مُغاير تمامًا لكل من "التيّار" و"الحزب"، وهي ما إن إتخذت قرارًا لم يُعجب "الحزب"، حتى جرت أحداث السابع من أيّار، وتبدّلت المُعادلة الداخليّة كليًا! فكيف بالحري اليوم، وكلّ من ​رئاسة الجمهورية​، والأغلبيّة النيابيّة، والكثير من المواقع العسكريّة والأمنيّة والإداريّة، والتوازنات الداخليّة والإقليميّة، هي حاضنة تمامًا لجبهة "محور المُقاومة" بتفاصيلها العريضة!.

واللافت أنّه في مُقابل نظريّة المؤامرة الخارجية التي تتحدّث عن مساع دَوليّة تريد إفشال تحالف "التيار الوطني الحُرّ" ومحور المُقاومة"، عن طريق ضرب الإستقرار اللبناني الداخلي، والتسبّب بإنهيار إقتصادي ومالي، لتمرير أجندات خارجيّة تأخذ في الإعتبار المصالح الخليجيّة والغربيّة وحتى الإسرائيليّة، على حساب المصلحة اللبنانيّة، تُوجد نظريّة مُقابلة تستغرب مُساهمة كل من "التيّار" و"الحزب" في هذا المنحى–ولوّ عن غير قصد، عن طريق عدم تسريع وتيرة الحُلول إلى أقصى درجة مُمكنة، أي كانت مُتطلّبات التوصّل إلى تسوية وسطيّة، حيث أنّه مع كل يوم تأخير ينجرف لبنان أكثر فأكثر نحو الهاوية!

في الخُلاصة، الناس في لبنان سئمت تمامًا من الصراعات والمُناكفات السياسيّة، بكل مُستوياتها الداخليّة والإقليميّة والدَوليّة، وهي لم تعد تُبالي سوى بلقمة عيشها المُهدّدة جديًا في هذه المرحلة، في ظل التفاقم المُستمر والسريع للأوضاع الحياتية والمعيشيّة. ومن لا يزال يتمسّك بموقع رسمي هنا، وبمكسب سياسي هناك، سيتفاجأ قريبًا أنّ النقمة الشعبيّة الفعليّة لم تنفجر بعد، وأنّ ما حصل حتى تاريخه ليس سوى رأس جبل جليد الغضب الشعبي المُتنامي، ما لم يُبادر المسؤولون المعنيّون-كلّهم من دون إستثناء، إلى وقف لعبة الكباش السياسي فورًا، وإلى العمل معًا على ما يُمكن إنقاذه–إذا كان الوقت لا يزال مُتاحًا لفرصة الإنقاذ أصلا!.