في مُقابل سعر صرف ال​دولار​ الرسمي الثابت منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، شهد سعر صرف الدولار لدى الصيارفة وفي السوق السوداء إرتفاعًا تصاعديًا خلال الأشهر الماضية، قبل أن يبلغ أرقامًا مُقلقة قبل أسابيع وحتّى اليوم. وفي مُحاولة للجم هذا المنحى الذي يترافق مع إرتفاع جنوني في الأسعار، تكاثرت الدعوات على ​مواقع التواصل الإجتماعي​ لمُقاطعة الدولار في مُختلف التعاملات، على أمل تراجع سعره بفعل تراجع الطلب المُستهدف! فهل هذا الأمر مُمكن التحقيق، أم أنّه مُجرّد أوهام بعيدة كلّ البعد عن الحقيقة؟.

بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ أغلبيّة الدُول في العالم تمنع التعامل بأيّ عملة أجنبيّة على أراضيها، مع إستثناءات محدودة من قبل بعض الدول التي تُعوّل على السياحة بشكل أساسي، مثل تركيا على سبيل المثال لا الحصر. وهنا لا بُدّ من ضمّ الصوت إلى أصوات كلّ المُعترضين على إصدار فواتير بالدولار، مثل فواتير الهاتف التي تُصدرها "أوجيرو"، والأقساط التي تُصدرها بعض ​المدارس​ و​الجامعات​ الخاصة في ​لبنان​، حيث أنّ هذا الأمر مرفوض ومُستغرب، لأنه لا يُوجد أيّ منطق مُقنع لأن تكون كل هذه الأسعار بغير العملة الوطنيّة.

ومن غير المقبول أيضًا أن تكون نسبة التعاملات بالدولار في لبنان، والتي يُطلق عليها إسم "نسبة الدَولرة"، تبلغ نحو 75 % من إجمالي التعاملات التجاريّة والتسليفات المصرفيّة وتحرير الشيكات، إلخ. وهذه الأرقام ليست بجديدة، أي أنّها لم تطرأ بعد الإحتجاجات الشعبيّة التي هزّت الشارع اللبناني، بل هي مُتجذّرة في البنية الإقتصاديّة اللبنانيّة منذ عُقود! فلماذا تبلغ قيمة الشيكات السنويّة المُتبادلة في لبنان بالدولار ثلاثة أضعاف قيمة الشيكات السنوية المُحرّرة بالعملة الوطنيّة؟!.

وبالتالي، من المُمكن إصدار تشريعات تمنع إستخدام أيّ عملة غير ​الليرة​ اللبنانيّة داخل لبنان، أيّ عند دفع الأقساط أو شراء البضائع والمُنتجات والحاجيات على أنواعها من المحال التجاريّة، بالتزامن مع إلغاء "مقاصّة الشيكات بالدولار" للتعاملات الداخليّة، ما سيُؤدّي تلقائيًا إلى تراجع الطلب على الدولار وإرتفاع الطلب على الليرة، وفق مُعادلة "العرض والطلب" الغنيّة عن التعريف.

في المُقابل، إنّ مُشكلة لبنان تتمثّل في كونه بلدًا مُستوردًا وغير مُصدّر، حيث تنحصر صادراته على بعض المُنتجات الصناعيّة وعلى بعض المُنتجات الزراعيّة. ومثلاً بلغت قيمة إستيراد لبنان خلال العام 2018 الماضي، نحو 20 مليار دولار أميركي، في مُقابل قيمة صادرات لا تتجاوز 3 مليارات دولار، الأمر الذي يُظهر الهُوّة الكبيرة بين عمليّات التصدير والإستيراد. وبالتالي، إنّ كلّ التجار الذين يستوردون حاجات لبنان المُختلفة، لا يُمكنهم التخلّي عن التعامل بالدولار، لتسديد رسوم الشحن والنقل ولدفع كلفة شراء هذه المُنتجات من مصادرها الخارجيّة. وما يستورده لبنان كثير وكبير، من السيارات والمُشتقّات النفطيّة، مُرورًا بالكثير من السلع الإستهلاكيّة الأساسيّة والثانويّة، وُصولاً إلى التجهيزات الكهربائيّة والإلكترونيّة، إلخ. ولا يُمكن بالتالي التخلّي سوى عن جزء محدود من هذه الواردات، والتي تُصنّف في خانة الكماليّات.

أمام هذا الواقع، لا يُمكن الإستمرار في دفن الرأس في الرمال، والحديث عن سعر صرف رسمي للدولار يبلغ 1515 ليرة لبنانيّة، فهذا السعر صار أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة حاليًا، الأمر الذي يتسبّب بمشاكل كُبرى على مُستوى الإستيراد، تظهر نتائجها السلبيّة في غلاء أسعار السلع من جهة، وفي إعتراض الكثير من المُستوردين من جهة أخرى، وكذلك في إنقطاع أو على الأقلّ في شحّ الكثير من المواد المُستوردة، في الأسواق اللبنانيّة. وبالتالي المَطلوب المُبادرة سريعًا إلى إتخاذ إجراءات تحصر إستخدام الدولار لحاجات التعامل التجاري الخارجي، والإستيراد بشكل خاص، وجعل كل الرواتب في لبنان وكل الأقساط وكل المدفوعات–على إختلاف أنواعها، بالعملة الوطنيّة. والمَطلوب أيضًا وضع الخطط الكفيلة بزيادة ​الصادرات​ اللبنانيّة، وتخفيف الواردات، وكذلك العمل على إختيار أسواق خارجيّة رديفة لتأمين عمليّات الإستيراد بأسعار مقبولة نسبيًا. وعلى اللبناني أن يقتنع أنّ زمن الإستيراد من ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة والدول الأوروبيّة الغربيّة إنتهى، ويجب الإنتقال إلى الإستيراد من دول مثل الصين وأوروبا الشرقيّة، إلخ.

في الخُلاصة، إنّ دعوات مُقاطعة الدولار هي فولكلوريّة ولن تُسفر عن أيّ نتيجة عملانيّة، على الرغم من أحقّيتها ومن وطنيّتها–إذا جاز التعبير. والتخلّص من الدولار كليًا غير وارد لبلد يُعوّل على الإستيراد الخارجي كلبنان، لكن يُمكن تخفيف التعويل على الدولار وغيره من العملات الأجنبيّة، عبر إصدار تشريعات مناسبة، تحصر اللجوء إلى غير العُملة الوطنيّة بإستثناءات مَحدودة ومُبرّرة فقط لا غير، على غرار الإستيراد الخارجي مثلاً، شأننا في ذلك شأن الأغلبيّة الساحقة من دول العالم.