منذ استقالة الرئيس ​سعد الحريري​ بعد إقرار حكومته للورقة ​الاقتصاد​ية تحت ضغط ​الانتفاضة​ الشعبية في الشارع، وعدم الاقدام على وضعها موضع التنفيذ العملي، كان واضحا انه كان يستجيب بذلك للأمر الأمريكي، الذي وضع عبر الرئيس الحريري شرطا لعودته قبول تكليفه تشكل حكومة جديدة، تكون ​حكومة تكنوقراط​ يرأسها هو ولا تتمثل فيها الاحزاب السياسية، وتتمتع بصلاحيات استثنائية تنفيذية وتشريعية.. اي حكومة تدير شؤون البلاد بالكامل وفق التوجيهات الأمريكية، لتمرير الأجندة الأمريكية، التي تستهدف حصار ​المقاومة​ وتهميش حلفائها، واخضاع ​لبنان​ لشروط ​صندوق النقد​ والبنك الدوليين، سلاح أمريكا لفرض الهيمنة والسيطرة على قرارات الدول، وكذلك العمل على ​ترسيم الحدود​ البحرية بما يحقق مصلحة كيان العدو الصهيوني بالاستيلاء على جزء مهم من ثروة لبنان النفطية في البلوك رقم تسعة الذي يحوز حسب الاكتشافات على مخزون كبير.. واستطرادا حصول الشركات الأمريكية على حصة من الاستثمار في البولكات النفطية في مياه لبنان الإقليمية الخالصة.. و اخيرا منع لبنان من الاتصال ب​الحكومة السورية​ لحل مشكلات تصدير إنتاجه الزراعي والصناعي واعادة ​النازحين السوريين​ الى سورية.

أدرك الفريق الوطني الذي يملك الأكثرية البرلمانية التي تجعله يتحكم بقرار تسمية رئيس الحكومة المكلف ل​تشكيل الحكومة​ ​الجديدة​، أدرك هذا المخطط الانقلابي على الواقع السياسي الحكومي، ووضع خطوطا حمراء تحول دون تشكيل حكومة تكنوقراط يريدها الرئيس الحريري ومن ورائه ​واشنطن​ للتحكم بالقرار اللبناني، واعادة عقارب ​الساعة​ إلى الوراء بما يعيد تعويم وانعاش مشروع الهيمنة الأمريكي المتراجع في المنطقة، بعد هزائمه في سورية و​العراق​ و​اليمن​ وفي المواجهة مع ​إيران​.

لكن الفريق الوطني، الذي اخذ هذا الموقف الحازم بعدم تقديم اي تنازل سياسي، لم يقرر الرد على هذا المخطط الانقلابي، الذي يستغل الازمة المتفجرة في لبنان لتحقيق أهدافه، بالذهاب نحو اختيار رئيس مكلف لتشكيل حكومة من الأكثرية تتكون من التكنوقراط والسياسيين ويمثل فيها ​الحراك الشعبي​ بوزراء تكنوقراط ذوي سمعة جيدة، وتعمل هذه الحكومة على تنفيذ برنامج إنقاذ اقتصادي مالي اجتماعي إصلاحي يلبي مطالب الناس التي نزلت إلى الشارع ويتجه نحو الشرق في تنويع خياراته الاقتصادية لحل مشكلاته.. وبدلا من ذلك تمسك الفريق الوطني بالرئيس الحريري او من يسميه الاخير لتشكيل حكومة تكنو سياسية، انطلاقا من أنه هو القادر على توفير الغطاء الكبير من ​الطائفة السنية​، وأن ذلك يسهم في إحباط المخطط الانقلابي، لان خيار تشكيل حكومة اكثرية يعني الذهاب إلى معركة مع فريق ١٤ اذار ومن ورائه الأمريكي والغربي مما يجعل الحكومة تواجه مصاعب اقتصادية ومالية كبيرة في ظل أزمة عاصفة قد تدفع البلاد الي الانقسام والفوضى. لا يريدها الفريق الوطني.

بالمقابل فإن الحراك الشعبي بات يعاني من المأزق هو الاخر نتيجة نجاح قوى ١٤ آذار في ركوب موجته وجعل مطلبها بتشكيل حكومة تكنوقراط هو السائد على مستوى الحراك، في حين ان ​القوى الوطنية​ في الحراك لم تنجح في التوحد وبلورة خطاب وبرنامج واحد يحدث فرزا في الحراك ويمنع قوى ١٤ آذار من استغلال الحراك.

امام هذا الواقع يبدو لبنان غارق في مأزق عدم قدرة اي فريق على الحكم لوحده وعجز الحراك عن فرض مطالبه المحقة بعد أن جرى حرفه عن مساره، لكن هذا المأزق بات يفاقم من الأزمات المالية والنقدية والاقتصادية ويزيد من حدة الازمة الاجتماعية، ويضغط على الطبقة السياسية لوقف التدهور وتجنيب اللبنانيين المزيد من الخسائر، وبالتالي إخراج البلاد من خطر الانزلاق الى الفراغ والفوضى الشاملة التي لا يكسب منها أحدا.. فالجميع سيدفع الثمن، خصوصا وان اعادة إصلاح الأضرار الناتجة عن ذلك ستكون كلفتها على البلاد كبيرة كلما طال الوقت وتاخر تشكيل حكومة قادرة على اتخاذ إجراءات سريعة تحقق مطالب الناس المحقة في الإصلاح و​محاربة الفساد​ واسترداد أموال ​الدولة​ المنهوبة، وتوقف الانهيار، وتنهض بالاقتصاد من حالة الانكماش عبر العمل سريعا لتأمين تسهيلات لتصدير الانتاج الزراعي والصناعي الى العراق و​الدول العربية​ الأخرى، عبر الاتصال بالحكومة السورية، والتعاون معها لتأمين عودة كريمة للنازحين العرب السوريين الى سورية...والى ان نضج تسوية تقود إلى تشكيل مثل هذه الحكومة بعيدا عن الشروط الأمريكية الغربية.. فإن لبنان سيبقى في المأزق الذي يفاقم الأزمات ويهدد بانزلاقه إلى الفوضى الشاملة مع ما تحمله من مخاطر على الامن والاستقرار والسلم الأهلي.