لا يُنكر أحد في لبنان، لا في السلطة ولا في المعارضة الميدانية في الشارع، أن البلد يمر بأزمات صعبة، والأخطر هو العنوان الإقتصادي، لأن تداعياته تتعلق بحياة المواطنين في يومياتهم ومعيشتهم، ولا تفرّق بين مواطن وآخر، ولا بين طائفة او منطقة او هوى سياسي وآخر. واذا كانت المسؤولية سياسية، بالدرجة الأولى، تزيدها المراوحة السلبية في ملف تكليف رئيس لتأليف ال​حكومة​، فإن كل اللبنانيين يساهمون في زيادة حجم الأزمة الإقتصادية من خلال التعاطي القائم بمسألة الودائع المالية، وتذبذب سعر صرف ​الليرة اللبنانية​.

الفارق هنا أن المواطن المُودع يُقدم على محاولة سحب أمواله، أو إستبدال العملة اللبنانية بالدولار الأميركي، نتيجة هلع وقلق وخشية مما تحمله الأيام، وهو تصرفٌ مبرر في ظل غياب مظلة الأمان السياسية، بينما يُقدم المسؤولون الإقتصاديون، وبعض المصارف، والصيارفة، وتجّار الأزمة، على إتخاذ إجراءات نتيجة طمع وجشع وسوء تصرف. بالمحصلة، تتكامل النتيجتان في رفد الأزمة بعناصر سلبية مُطلقة في ضرب العملة الوطنية.

عندما يؤكد وزير الإقتصاد في الحكومة المستقيلة ​منصور بطيش​ أن اللبنانيين سحبوا أربعة مليارات دولار من المصارف ووضعوها في خزائن منازلهم، فهذه مسألة خطرة لأنها رفعت من قيمة الدولار المطلوب للشراء، وخفّضت من قيمة الليرة المعروضة للبيع، خصوصاً أن المبلغ المخزّن في المنازل ينال من طبيعة الدورة الإقتصادية، ويساهم في إضعاف الحركة المالية، ويصيب الليرة اللبنانية.

لكنها ليست مسؤولية المواطن الذي شُحن في الأشهر الماضية شكوكاً بالوضع المالي، وبأن الأيام المقبلة صعبة وخطرة جداً، فلجأ الى عنصر الأمان بالنسبة اليه: الدولار الأميركي. حينها دأب حاكم مصرف لبنان ​رياض سلامة​ على طمأنة اللبنانيين، بهدف حماية الليرة ومنع الإنهيار، لأن الخطاب الإعلامي الموجّه يساهم في صناعة القلق أو الإرتياح. لكن الضغوطات النفسية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية، كلّها دفعت اللبنانيين الى تخزين الدولار بحسب قدراتهم.

كان الأشد خطراً، هو تعامل الصيارفة مع قلق المواطنين على قاعدة الإبتزاز. أصبحوا تجار الأزمة. رفعوا سعر صرف الدولار تدريجياً في "سوق سوداء"، بحسب الطلب، فوصلوا الى ما يفوق ٢٣٠٠ ليرة للدولار الواحد. من اين أتوا بكميات الدولارات؟ من زوّدهم بها؟ قيل إن مصارف لعبت مع الصيارفة، إلى أن تدخل مصرف لبنان الذي تنبّه للإنفلات الحاصل، فعمد الى تحذير مشتبه بهم. لكن الخطوات الأهم هي التي سينفّذها مصرف لبنان المركزي بعد الحصول على ضوء سياسي أخضر في إجتماع ​بعبدا​ الأخير.

كان يُفترض ان تقود حكومة ​تصريف الأعمال​ خلية إدارة الأزمة، لكن إعتكاف رئيسها المستقيل ​سعد الحريري​ عن ممارسة أي دور، زاد من حجم الأزمة. لا يمكن التذرع فقط بالإحتجاج على تأخير الإستشارات النيابية، ولا بالخلاف السياسي الحاصل في مقاربة ​الحراك الشعبي​ في الشارع.

يحمل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة خطة العلاج المتدرّج لتنفيذها، بدءاً من إجبار المصارف على رفع رأسمالها، مما يضخ أربعة مليارات دولار في السوق اللبناني على مرحلتين. ثم سيتم خفض الفوائد، شرط ان تعود المصارف الى تسهيل حركة التجّار لرفد ​الزراعة​ و​الصناعة​ بسيولة مالية تخول هذين القطاعين الإستثمار في الأزمة، بدل اعتماد البلد على الاستيراد الذي يسحب العملة الصعبة الى خارج لبنان.

كما أن حاكم المصرف سيحجب عن المصارف العملة اللبنانية، كي يُصار الى استخدام الدولار الموجود لديهم، او سحبه من ودائعهم في الخارج، لعدم إغراق البلد بالعملة اللبنانية.

الأهم هنا ان توافر الدولار في السوق سيقلّل من حجم الطلب عليه، وسيُحبط مخطط الصيارفة الذين باتوا يملكون كميات كبيرة من الدولارات. فإذا أعطت المصارف لمودعيها العملة الخضراء، وخفّ الطلب على الدولار، سينخفص سعره فورا في السوق السوداء. لكن مسألة إعادة الاربعة مليارات دولار من خزائن المنازل الى حركة السوق، وهي كفيلة بضبط الأزمة المالية، لن تكون من دون ثقة شعبية مفقودة الآن، بوجود أزمة سياسية.

مما يؤكد ان مصرف لبنان يقوم الآن بدوره الوطني على اكمل وجه، بينما المطلوب من القوى السياسية القيام بادوارها، كي تعود الثقة تدريجياً، وتحل الإصلاحات، وتنهض القطاعات مجدداً لجذب الأموال، في مرحلة يستعد فيها لبنان للدخول في نادي الدول النفطية.