حاولت «القوات اللبنانية» التسويق لحكومة اختصاصيين مستقلّين، قبل اندلاع شرارة الحراك في 17 تشرين الأول، وتحديداً خلال اجتماع بعبدا حول الورقة الاقتصادية في 2 ايلول الماضي، إلّا انّها جُبهت برفض معظم مكونات السلطة، ثم عاودت الضغط في هذا الاتجاه بعد انطلاق ​الانتفاضة​ الشعبية، فيما زار وفد قواتي قبل ايام الرئيس ​ميشال عون​ لإقناعه بهذا الطرح، إنما من دون جدوى. لكن ما هو مضمون العرض الذي حمله الوفد من ​سمير جعجع​؟ وكيف ردّ عليه عون؟

يعتبر خصوم «القوات» أنّها تصرّفت بانتهازية سياسية في لحظة مصيرية، عندما قفزت من مركب ​الحكومة​ السابقة باستقالة وزرائها بعدما عصفت به رياح ​الاحتجاجات​، واندفعت نحو ركوب موجة ​الحراك الشعبي​ الى أقصى الحدود، بدل ان تتحمّل مسؤولياتها كإحدى مكونات السلطة التي انتفض عليها الناس.

وانطلاقاً من موقعها الجديد في صفوف «المعارضة العلنية»، انخرطت قواعد «القوات» في الحراك، خصوصاً داخل المناطق المسيحية، حيث سُجّل حضور فاعل لمحازبيها وجمهورها في كل أشكال الاحتجاج والتصعيد، ما دفع خصومها الى اتهامها بالاستثمار السياسي للغضب الشعبي وبالوقوف خلف ظاهرة ​قطع الطرق​ في أماكن نفوذها، بهدف الضغط على العهد واضعافه.

أمّا ​معراب​، فقد نفت ان تكون هناك «إدارة سياسية» مباشرة منها لبعض مجموعات الحراك، مؤكّدة أنّ مناصريها نزلوا الى الشوارع كمواطنين لا محازبين، وذلك بضوء أخضر من رئيس «القوات» سمير جعجع، الذي اعتبر انّ من حق مؤيّديه ومحازبيه ان ينخرطوا في الانتفاضة ويتفاعلوا معها، احتجاجاً على الاوضاع السائدة، بعيداً من الأطر التنظيمية وتوجيهاتها.

ومع إلحاح «القوات»، الى جانب «الاشتراكي» و«المستقبل»، على تشكيل ​حكومة تكنوقراط​، إستشعر فريق العهد و«حزب الله» انّ هناك محاولة من تلك القوى لتوظيف دينامية الانتفاضة الشعبية ونقمتها على السياسيين الفاسدين في اتجاه سلبه الاكثرية والانقلاب على نتائج ​الانتخابات النيابية​ السابقة وما أفرزته من معادلات وتوازنات في السلطة، فما كان من هذا الفريق إلّا أن ازداد تمسّكاً بالحكومة التكنوسياسية.

وحين استعصى التوافق على طبيعة الحكومة المقبلة ورئيسها، أوفد جعجع قبل أيام الى ​قصر بعبدا​ كلاً من مدير مكتبه ايلي براغيد والوزير السابق ​ملحم رياشي​، سعياً الى إقناع عون بضرورة الذهاب نحو خيار التكنوقراط الذي يشكّل الإطار الافضل والأفعل للتعامل مع تحدّيات المرحلة الحالية ولالتقاط نبض الناس، بحسب رأي «القوات».

ماذا دار خلال هذا الاجتماع؟

أبلغ الوفد القواتي الى عون انّ هناك ضرورة ملحّة لتشكيل حكومة من اختصاصيين مستقلّين، يكونون خبراء في ملفات وزاراتهم وقادرين على معالجتها، مشدّداً على أنّ تحقيق الإنقاذ الاقتصادي والمالي يتطلب وزراء بهذه المواصفات.

واستعجل الوفد رئيس الجمهورية إجراء ​الاستشارات النيابية​ الملزمة وتسمية الرئيس المكلف في أقصر وقت ممكن، على قاعدة أنّه كان يجب تأليف الحكومة أمس قبل اليوم، ملمحاً الى انّ طريقة تصرّف عون لا تنسجم مع موجبات الآلية الدستورية التي ينبغي تطبيقها.

لكن عون المكتوي بتجارب سابقة، لفت انتباه ضيفيه الى انّه لا يستطيع التفريط بورقة التكليف قبل اتضاح الخطوط العريضة لمعالم التأليف، قائلاً لهما: ماذا افعل إذا حشرني الرئيس المكلّف وأتاني بتشكيلة وزارية غير مناسبة؟

إن رفضتها سأظهر أمام الناس بأنني أعرقل ولادة حكومة الإنقاذ، وأتأخّر في معالجة الأزمة الحالية، وإن قبلت بها سأكون قد خالفت اقتناعاتي وضميري، إضافة الى أنّ هذه الحكومة ستتولّى هي تصريف الأعمال إذا امتنع ​مجلس النواب​ عن منحها الثقة، لذلك من الافضل التوصّل الى حد أدنى من التفاهم على التركيبة الوزارية قبل مباشرة الاستشارات الملزمة.

لم يقتنع موفدا جعجع بطرح عون، وابلغا اليه أنّه محصَّن بتوقيعه الالزامي، وأنّه إذا كان لديه اعتراض على بعض الأسماء فمن حقه كرئيس للجمهورية استخدام صلاحيته في عدم توقيع اي تشكيلة وزارية لا تنال رضاه، «وحتى لو وصلت الحكومة الى مجلس النواب فإنّ لديكم القدرة على حجب الثقة عنها واسقاطها، ومن ثم الدعوة الى استشارات جديدة وفورية لتسمية رئيس مكلّف وتشكيل حكومة اخرى. المهم في كل هذه المسألة هو الاحتكام الى الآلية الدستورية المرعية الاجراء، والتقيّد بها».

ومن باب طمأنة عون و«حزب الله»، اقترح الوفد القواتي ان تعتمد حكومة التكنوقراط المفترضة ​البيان الوزاري​ نفسه الذي اقرّته الحكومة المستقيلة، وهو بيان كان قد أيّده «الحزب» وتحفّظت عنه معراب.

كذلك، اشار الى انّ بالإمكان اختيار وزراء شيعة على نسق ​جميل جبق​، «الأمر الذي من شأنه ان يُطمئن في وقت واحد الحزب و​المجتمع الدولي​ الذي نحتاج الى مساعداته، علماً انّ اي وزير شيعي من التكنوقراط، لن يخالف في نهاية المطاف «حزب الله»».

وسعياً الى تجميل صيغة التكنوقراط وتصفيحها بمزيد من الضمانات السياسية، رأى موفدا جعجع انّ «عون سيكون ضمانة «حزب الله» وقوى الاكثرية النيابية في تلك الحكومة، و​سعد الحريري​ ضمانة «القوات» و«الاشتراكي»، بحيث تنتفي أي هواجس او دوافع للقلق».

وذهب الوفد القواتي في محاولته تسويق خيار التكنوقراط لدى عون الى حدّ التأكيد انّ جعجع لن يمانع في ان يتولّى رئيس الجمهورية تسمية الوزراء المسيحيين جميعاً شرط ان يكونوا مستقلّين ومن نسق سليم اده (ابن الراحل ​ميشال اده​) على سبيل المثال.