في كل مره اتناول فيها ​الحراك الشعبي​ الجاري في ​لبنان​، أرى ان ابدا بالتأكيد على امرين:

الأول ان الحراك الشعبي المطلبي هو تحرك تأخر ​الشعب اللبناني​ في أطلاقه سنوات وانه أطلقه اليوم بعد ان ضاق ذرعا بالطبقة السياسية وحاشيتها التي نهبت لبنان حتى وصل الامر الى حد لا يحتمل، حيث استشرى الفساد في ​الدولة​ وتوسع النهب وسرقة ​المال​ العام وهدر كرامة المواطن وحقوقه، وتم توزيع الدولة ومواردها حصصا واقطاعات بين اشخاص لا يصل عدد الاساسيين فيهم الى العشرة يرعون فساد كتل منوعة من متولي الشأن العام في شتى قطاعات الدولة دون ان يستثنى قطاع مع تفاوت في حجم الفساد والهدر والسرقة بين قطاع واخر.

والثاني الخشية من استثمار الخارج المتربص بلبنان ومصادر قوته للحراك ، واغتنامه فرصة انطلاقه و ما يرافقه من الانقسام الداخلي استغلال يترجم بالتسلل الى الحراك النقي الطاهر لإفساده وتحويل مساره من اجل استثماره لأهداف خارجية لا نقول ان لا علاقة للمحتجين بها فحسب بل نقول ان ​المحتجين​ الوطنيين لو أدركوا ما يحضره الخارج في مسار الاستثمار هذا لكانوا هم اول من اعترض ورفض وتصدى للتدخل الأجنبي ونحن على يقين من ذلك.

ويبقى ان نذكر أيضا ان للخارج عملاء يزرعهم بثياب النقاء و يظهرون بمظهر الحملان الوديعة التي تلازم المحتجين الصادقين ثم تغريهم بفعل او قول من اجل انتاج ​البيئة​ التي تسمح لاحقا للخارج ان يتدخل و يتولى قيادة الدفة في الاتجاه الذي يحقق مصالحه .

و كذلك لا بد من التحذير من سلوك الذين تولوا الحكم في البلاد مستأثرين به حينا او شركاء فيه أحيانا أخرى ، و شاركوا بالنهب المنظم و كانوا رواد الفساد و ​المحاصصة​ الطائفية خلال العقود الثلاثة الماضية التي شهدت علمية نهب لبنان و افقاره و دفعه الى الانهيار ، لا بد من التحذير من هؤلاء الذين يحاولون اليوم القفز من المركب المتجه الى الغرق ثم تقديم انفسهم بانهم هم المنقذون في اكبر عملية تضليل و تزوير شهدها لبنان في تاريخه الحديث .و على الكل ان يراجع مسار لبنان في ال 30 سنة الماضية و من تولى الملف المالي و الاقتصادي فيه و من وضع ​السياسة​ المالية و الهندسات المصرفية و وضع يده على قلب العاصمة و طرد منها أصحاب الحقوق الأصليين و استباح الأملاك العامة على الشاطئ البحرية و .. و...

بعد هذا نعود الى اهل الحراك الصادق الذين يتمسكون بوسم حركتهم باسم "ثورة " ودون ان نناقش في التسمية رغم اننا لا نقرهم عليها من منطلق قانوني وموضوعي وميداني، فاننا سنعتمد لهم تسميتهم ونعمل بالقول "خاطب الشخص بما يحب ان ينادى به " وعليه نطرح أسئلة لا بد من مناقشتها كالتالي:

أولا: سنسلم بان "​الثورة​" انطلقت بشكل عفوي، ونحن على يقين ان كثيرا من الناس خرجوا الى الشارع هكذا، دون ان يكون للتحرك قيادة ودون ان يكون له إدارة ودون ان يكون له هيئات تنسيق، لكن هل يمكن ان يستمر هذا التحرك الجماهيري الممتد من ​الشمال​ الى ​الجنوب​ ومن الساحل الى ​البقاع​ دون قيادة ودون إدارة واضحة؟ ثم كيف يفسر وجود من يقدمون أنفسهم مسؤولين في الحراك ويخططون ويقررون ويلتزم من في الشارع بأوامرهم وتوقيتاتهم. في الإجابة هنا يجب احترام العقول.

ثانيا: بحجة عدم وجود قيادة، او عدم تفويض أحد النطق باسم الحراك، يمتنع "الثوار" عن محاورة ​السلطة​ رغم دعوات ​رئيس الجمهورية​ المتكررة لهذا الحوار ويصرون على مطالب تناقض بعضها بعضا ولا يستطيع المرء تفسير تلبيتها معا في أي سياق يمكن اعتماده وعلى الشكل التالي:

1) يطالبون بأسقاط الرئيس الجمهورية بعد اسقاط او استقالة ​الحكومة​ واجراء انتخابات مبكرة، وهنا نسأل من سيتولى الحكم خلال تلك الفترة؟ ومن سيجري ​الانتخابات​ المبكرة.؟

2) يطالبون بتشكيل ​حكومة تكنوقراط​ مستقلة لا تنبثق من الأكثرية النيابية القائمة، ولكن لا يقولون كيف ستشكل هذه الحكومة وكيف ستنال الثقة؟ فاذا قيل ان الحكومة تحكم من غير ثقة نقول ان هذا انقلاب على ​الدستور​ او خرق له، وإذا قيل تنال الثقة من قبل الأكثرية النيابية القائمة وافقت ام لم توافق على إخراجها من الحكم نقول ومن اعطاكم الحق بان تفرضوا ارادتكم على تلك الأكثرية التي تشكلت إثر انتخابات جرت قبل اقل 18 شهرا فقط؟

3) يقولون انهم في مطالبهم السياسية ينطقون باسم الشعب اللبناني كل الشعب اللبناني وهنا نسأل إذا كنا نؤكد على ان المطالب المعيشية هي فعلا مطالب كل الشعب وانه لا يتنكر لهالا فاسد يرعى الفساد فان امر التغيير السياسي امر اخر حيث يغيب التوافق عليه الان وهنا يمكن طرح السؤال من اعطاكم هذا التفويض السياسي للنطق باسم كل الشعب وأنتم لم تقدموا حتى الان للشعب قيادة يوافق عليها ويثق بها فكيف يسلم الشعب زمامه الى قيادة مجهولة؟ ثم الا تلتفتون الى ان للأكثرية النيابية الحالية قاعدة شعبية إذا خرجت الى الشارع قد تتعداكم حجما وعددا وقوة.

4) وأخيرا نسأل "الثوار" كيف توفقون بين طلب الإصلاح و​مكافحة الفساد​ واستعادة المال المنهوب ثم تمنعون ​مجلس النواب​ للانعقاد لإقرار قوانين تلبي هذه الطلبات؟

في الخلاصة نرى ان مطالب الحراك الشعبي "الثورة " باتت تدرج في فئتين فئة سياسية تتصل بإعادة تشكيل السلطة، وفئة معيشية واصلاح مالي واقتصادي، فاذا كانت الفئة الثانية محل اجماع اللبنانيين فاننا نجد ان الفئة الأولى ليست كذلك حيث لا يمكن تحقيقها الا بواحد من طريقين:

أ‌. الأول يكون عن طريق الغلبة الشعبية والإطاحة بالدستور وما انبثق عنه من هيئات وقوانين وتنصيب حكومة انتقالية تعيد تشكيل السلطة وفقا لنظام تفرضه، وهذا يفرض القدرة على احكام السيطرة على البلاد بالقوة الامر غير المتحقق في الوضع الراهن ولذلك يكون حمقا التفكير به او ان يمني أحد النفس باللجوء اليه.

ب‌. الثاني يكون عن طريق الالية الدستورية القائمة، ما يعني التوقف عن المطالبة بأسقاط الرئيس والتوقف عن اقفل مجلس النواب والقبول بتشكيل حكومة وطنية ترضى بها الأكثرية النيابية وبعد ذلك الضغط لتحقيق المطالب الحياتية المعيشية والإصلاح المالي وكل ما تبقى من مطالب ثم الانتقال بعد ذلك للإصلاح السياسي الذي لابد منه.

و أخيرا على اهل الحراك "الثوار " ان يؤكدوا دائما ان عملهم هو لتحصيل حقوق المواطن المعيشية و المالية و ان يحافظوا على اجماع اللبنانيين حول ذلك ويستفيدوا من الفرصة المتاحة ومن تجاوب اهل السلطة وكل الشعب اللبناني لتحقيق قفزة نوعية على صعيد الاصلاح المالي ومكافحة الفساد، والمحافظة على وطنية الحراك وقطع الطريق على أي محاولة للتدخل الخارجي والاستثمار فيه ، فان فعلو انتصروا و انتصر لبنان بهم و الا كانت "ثورتهم" ثورة على العقل و المنطق و ضد لبنان و استقراره ، ثورة لأجل شيء اخر غير معلن و عندها لن يكون اجماع وطني و لن يكون انجاز عملي و تعم الخسائر الجميع و يكون لبنان الخاسر الأكبر ...و هذا ما بتنا نخشاه لأننا نرى ارهاصاته تلوح في الأفق و نرى اكثر من جهة تدفع اليه و منها جهات لازالت تضطلع بالمسؤولية في إدارة البلاد و للأسف هذا بالإضافة الى التدخل الأجنبي الذي بات لا يخفى على عاقل متبصر...