نهاية الشهر الماضي، أرجأ رئيس مجلس النوّاب ​نبيه برّي​، وللمرّة الثانية، جلسة تفسير المادة 95 من الدُستور، والتي كانت مُقرّرة في 27 تشرين الثاني الماضي، إلى موعد لاحق، تجنّبًا لفتح موضوع خلافي كبير، في خضمّ الأزمة التي يعيشها لبنان. لكنّ معركة الصلاحيّات والتفسير المُختلف-حتّى التناقض، لبنود الدُستور، لم تنته فُصولاً بعد. وآخر النزاعات في هذا الشأن، ما حصل ويحصل بُخصوص مسألة الدَعوة إلى الإستشارات المُلزمة، وإطلاق مُشاورات تشكيل الحُكومة قبل تكليف أيّ شخصيّة برئاستها، الأمر الذي إنعكس تصعيدًا إعلاميًا كبيرًا على خطّ العلاقة الثُنائيّة بين "التيّار الوطني الحُرّ" و"تيّار المُستقبل". فما الذي يحدث، وهل تمّ إحتواء المَوقف، أم أنّ الأمور مُرشّحة للتفاقم؟.

منذ لحظة تقديم رئيس "تيّار المُستقبل" ​سعد الحريري​ إستقالة حُكومته في 29 تشرين الأوّل الماضي، طفت خلافات الصلاحيّات وتفسير بُنود الدُستور بين "التيّار" و"المُستقبل" إلى السطح مُجدّدًا، حيث جرت مُحاولة لتسويق عدم إعتبار هذه الإستقالة قائمة، في حال عدم ُقبولها من جانب رئيس الجُمهوريّة العماد ​ميشال عون​، لكن وُضوح بنود المادة 69 من الدُستور(1)، أدّى إلى صرف النظر عن هذا الموضوع سريعًا. عندها إنفجر الخلاف على مسألة الإستشارات النيابيّة المُلزمة، حيث قرّر الرئيس عون التريّث في إعلان موعد هذه الإستشارات، الأمر الذي أثار العديد من الإعتراضات، بحجّة أنّ البند الثاني من المادة 53 من الدُستور التي تتناول سُلطات رئيس الجُمهوريّة تنصّ على: "يُسمّي رئيس الجمهوريّة رئيس الحُكومة المُكلّف، بالتشاور مع رئيس مجلس النوّاب، إستنادًا إلى إستشارات نيابيّة مُلزمة يُطلعه رسميًا على نتائجها".

وبعد مُرور شهر ونيّف من دون تحديد هذه الإستشارات، تصاعد مُستوى الإعتراضات، في حين دافع فريق رئيس الجُمهورية عن المسألة بالتأكيد أنّ المادة واضحة، وهي لا تُشير إلى مُهلة زمنيّة للتقيّد بها للدعوة إلى الإستشارات. وذهب فريق الرئيس عون بعيدًا في التذكير بأنّه كما الدُستور لا يُحدّد مهلة للرئيس المُكلّف لتشكيل حُكومته، فإنّه لا يُحدّد مهلة لرئيس الجمهوريّة لإجراء الإستشارات، علمًا أنّ رؤساء الحكومات المُكلّفين أضاعوا أوقاتًا ثمينة على لبنان واللبنانيّين عشيّة تشكيل الكثير من حكوماتهم السابقة، ومنها مثلاً إستغراق رئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ الحالي، 9 أشهر لإعلان حُكومته، وإستغراق رئيس الحُكومة السابق تمّام سلام قبله 11 شهرًا لإعلان حُكومته، إلخ. وصِدام الخلافات والصَلاحيّات بين "التيّار" والمُستقبل"، تمدّد إلى مسألة تشكيل الحُكومة قبل تكليف أيّ شخصيّة هذه المُهمّة رسميًا، الأمر الذي فجّر هجمات إعلاميّة عنيفة مُتبادلة بين رؤساء الحكومات السابقين، وعدد من مسؤولي "التيّار الوطني الحُرّ" إضافة إلى وزير الدولة لشؤون رئاسة الجُمهوريّة في حُكومة تصريف الأعمال ​سليم جريصاتي​(2).

وبعد أن بلغت الأمور حدّ الحديث عن إحتمال قيام ​دار الفتوى​ بإصدار بيان شديد اللهجة تُدافع فيه عن صلاحيّات رئيس الحكومة، مع ما يعنيه هذا الأمر من إعطاء الخلاف أبعادًا طائفية ومذهبيّة خطيرة، جاء تحديد موعد الإستشارات النيابيّة يوم الإثنين المُقبل، ليمتصّ جزءًا من الأزمة، وليحتوي الخلاف بشكل جزئي، بحيث كسِبَ الأفرقاء المُتخاصِمين المَزيد من الوقت لمُتابعة الإتصالات القائمة خلف الكواليس. لكن من الضروري الإشارة إلى أنّ هذا الأمر لا يعني أنّ الأمور قد حُلّت، وإلا لكان موعد الإستشارات النيابية قد حُدّد من دون أيّ تأخير–ولوّ لبضعة أيّام. وبحسب فريق رئيس الجُمهوريّة، إنّ تعمّد تأخير الإستشارات لفترة مَعقولة، والقيام بإتصالات التشكيل مُسبقًا، تمّ بهدف عدم تكليف أيّ شخصيّة مهمّة تشكيل حُكومة جديدة، من دون توافق مُسبق–كما كان يحصل في السابق، مع ما يعنيه هذا الأمر من دخول إضافي في المجهول، لجهة زيادة الفراغ على مُستوى السُلطة التنفيذية أكثر فأكثر. وبحسب الفريق نفسه، إنّ الإتصالات التي تمّت لم تُخالف الدُستور، لأنّها شملت وبشكل أساسي ومحوري، رئيس حُكومة تصريف الأعمال الذي هو في الوقت عينه رئيس "تيّار المُستقبل"، وبالتالي لم يتمّ تغييب أيّ مُكوّن أساسي ويتمتّع بالتمثيل السياسي والشعبي ضُمن بيئته عنها. لكنّ الجهات الرافضة لهذه التبريرات، ردّت بالتشديد على أن ما حصل ويحصل يُمثّل تعدّيًا صريحًا على صلاحيّات رئيس الحكومة المَنصوص عليها في "​إتفاق الطائف​"، حيث أنّ البند الثاني من المادة 64 من الدُستور، تنصّ على أنّ رئيس الحُكومة المُكلّف هو الذي "يُجري الإستشارات النيابيّة لتشكيل الحُكومة ويوقّع مع رئيس الجمهوريّة مرسوم تشكيلها (...)" وليس أحدًا سواه، علمًا أنّ البند الرابع من المادة 54 الخاصة بصلاحيّات رئيس الجمهورية، تنصّ على أنّ الرئيس "يُصدر بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم ​تشكيل الحكومة​ (...)" فقط لا غير.

وبعيدًا عن هذا الجدل الدُستوري، لا شكّ أنّ ما يحصل لا يرتبط بخلاف على صلاحيّات من هنا، أو على تفسير بُنود من الدُستور من هناك، بل هو عبارة عن خلاف سياسي كبير، بين "التيّار الوطني الحُرّ" ومن يُمثل، و"تيّار المُستقبل" ومن يُمثّل، يبدأ بأسلوب إدارة الأزمة، ويمرّ بتحميل المسؤوليّات عنها، ولا ينتهي عند أفضل السُبل للبدء بالمُعالجة ولإدارة الحُكم ككلّ. والأكيد أنّ رفض عودة رئيس حكومة تصريف الأعمال ِإلى رأس السُلطة التنفيذيّة بالشروط التي وضعها، والتي قابلتها شُروط مُضادة للسماح بعودته، أسفر عن تفجّر ما في القلوب. وهذه الخلافات لن تنته بتشكيل الحُكومة–إن حصل هذا التطوّر، بل ربّما ستتفاقم نتيجة تشعّب الملفّات المُنتظرة، وبفعل كثرة المُتضرّرين ممّا يحصل حاليًا من تغييرات للمَوازين الداخليّة على المُستوى الحُكومي.

(1) تنصّ المادة 69 على أنّه: تُعتبر الحُكومة مُستقيلة في الحالات التالية: أ-إذا استقال رئيسها. ب-إذا فقدت أكثر من ثلث عدد أعضائها المُحدّد في مرسوم تشكيلها. ج-بوفاة رئيسها. د-عند بدء ولاية رئيس الجمهورية. ه-عند بدء ولاية مجلس النوّاب. و-عند نزع الثقة منها من قبل المجلس النيابي أو بناء على طرح الثقة.

(2) هاجم رؤساء الحُكومة السابقين ما وصفوه بالخرق الخطير لإتفاق الطائف والدُستور، والإعتداء على صلاحيّات رئيس الحكومة... في حين رأى وزير الدولة لشؤون رئاسة الجُمهوريّة في حُكومة تصريف الأعمال سليم جريصاتي أنّ هذه الإتهامات باطلة ومردودة، وعبارة عن تحريض فتنوي وطوائفي...