تسارعت الأحداث خلال عطلة نهاية الأسبوع، لا سيّما لجهة إنسحاب المُهندس ​سمير الخطيب​ من معركة التكليف لرئاسة الحُكومة المُقبلة، بعد لقائه مُفتي الجُمهوريّة ال​لبنان​يّة ​عبد اللطيف دريان​، وكذلك لجهة إعلان دوائر القصر الجُمهوري تأجيل موعد الإستشارات النيابيّة المُلزمة، على الرغم من التأخير الفاضح الحاصل على هذا المُستوى لأسباب مُتشعّبة، وفي ظلّ إتهامات مُتبادلة بين الجهات المَعنيّة!وقد أكّدت هذه التطوّرات مجموعة من الحقائق التي كانت تتردّد همسًا، وأبرزها:

أوّلاً: لا مجال لتكليف أيّ شخصيّة لرئاسة الحُكومة من دون غطاء الطائفة السنيّة، وتحديدًا نقاط الثقل فيها–إذا جاز التعبير، أي كل من دار الفتوى لنيل الغطاء الديني، و"تيّار المُستقبل" لنيل الغطاء السياسي من قبل القُوّة الأكثر تمثيلاً شعبيًا، بغضّ النظر عن نتيجة أيّ إستشارات وأيّ أغلبيّة نيابيّة. وبالتالي، ما لم يحظَ مُطلق أيّ مُرشّح بهذا الغطاء، سيفتقر للشرعيّة الميثاقيّة على مُستوى الوطن في ظلّ إستمرار التقوقع الطائفي والمذهبي في لبنان على حساب الفكر العلماني، وسيفتقر أيضًا للشرعيّة الشعبيّة على مُستوى طائفته، حتى لو تمّت تسميته من قبل أغلبيّة نيابيّة في مجلس النوّاب، مع الإشارة إلى أنّ جهات سياسيّة عدّة رأت في هذا الموقف ضربًا للدُستور، وسطوة دينيّة، وفرضًا لأعراف جديدة.

ثانيًا: لا يزال رئيس حُكومة ​تصريف الأعمال​ مُشاركًا بفاعليّة في لعبة عضّ الأصابع، في ظلّ أزمة التكليف والتشكيل المَفتوحة، على الرغم من كل التصاريح العلنيّة التي كانت قد أشارت إلى عدم رغبته بالعودة إلى السراي الحُكومي. فالوقائع تؤكّد أنّ الحريري لا يُريد العودة إلى السراي بشروط غيره، لكنّه يرغب بقُوّة بإعادة تكليفه لرئاسة الحُكومة المُقبلة، في حال جرت المُوافقة على الشُروط التي كان قد رفعها في وقت سابق. وهذا الواقع يُفسّر الضبابيّة التي سادت مواقف الحريري و"تيّار المُستقبل" إزاء كل الأسماء التي طُرحت لتولّي مهمّة التكليف منذ نحو الشهر حتى اليوم.

ثالثًا: رئيس حُكومة تصريف الأعمال لا يرغب بالدُخول إلى حكومة لا تتمتّع بتركيبة تسمح لها بالعمل بحريّة وبفاعليّة على الخروج من الأزمة الحاليّة، وبالإستفادة من الدعم العربي ومن المُساعدات الغربيّة. وفي الوقت نفسه، يخشى الحريري في حال خروجه كليًا من المُعادلة السياسيّة أن يُصبح في موقع العاجز عن تأمين الحماية لفريقه السياسي الضيّق، ولكل القوى السياسيّة التي تدور في فلكه، بحيث يُمكن لحُكومة لا يتواجد فيها مُمثّلون عن كلّ من "المُستقبل" و"القوّات" و"الإشتراكي" أن تُجري تغييرات جذريّة في أهمّ المراكز الأمنيّة والعسكريّة والإداريّة ضُمن الدولة اللبنانيّة، على غرار ​قوى الأمن الداخلي​ وشعبة المَعلومات، وحاكميّة ​مصرف لبنان​، ومديريّة ​طيران الشرق الأوسط​، وغيرها من المواقع، مع ما يعنيه هذا الأمر من تغيير جذري على مُستوى بعض التوازنات الداخليّة التي لا تزال قائمة.

رابعًا: التحالف السياسي العريض ما بين "التيّار الوطني الحُرّ" و"الثنائي الشيعي" ومن معه من قوى وشخصيّات في ​المجلس النيابي​، لا يرغب بتشكيل حُكومة أكثريّة، على الرغم من قُدرته على ذلك من الناحية العدديّة. وبالتالي، إنّ كل ما جرى التلويح به في السابق من تهديدات بإبعاد "المُستقبل" وإختيار شخصيّة سنيّة مَحسوبة على قوى "8 آذار"، يدخل في سياق المُناورات السياسيّة الرامية إلى تعزيز شروط التفاوض، حيث بات ثابتًا أنّ لا حُكومة جديدة من دون غطاء الحريري، لأنّ أي حُكومة أكثريّة ما بين "التيّار" و"الُثنائي الشيعي" ستجد صُعوبة بالغة في الحُصول على أموال وقروض "مُؤتمر سيدر"، وهي قد تواجه ضُغوطًا إقتصاديّة مُتصاعدة من الولايات المُتحدة الأميركيّة ومن الدول الخليجيّة، إلخ. وهذا ما يُفسّر إستمرار خروج أصوات تؤيّد عودة الحريري إلى رئاسة الحُكومة، من داخل الفريق المُناهض له سياسيًا، لأسباب مَصلحيّة من جهة، ولمنعه من التنصّل من إرتدادات الأزمةالحاليّة التي هي نتيجة تراكمات سنوات وعُقود من المشاكل والخلافات والسياسات غير الصائبة، وليست وليدة ساعتها، من جهة أخرى.

خامسًا: على الرغم من كلّ المُطالبات والمُناشدات بضرورة الإسراع في تشكيل حُكومة جديدة، لتجنّب الإنهيار الكامل، وللقيام بخطوة الألف ميل على طريق إستعادة الثقة والنهوض مُجدّدًا بالأوضاع الإقتصاديّة والماليّة، فإنّكل المُعطيات تؤكّد أنّ الدوران في الحلقة المُفرغة يُمكن أن يطول، مع كل الإرتدادات السلبيّة المُتوقّعة، وذلك ما لم يتراجع أحد طرفي الأزمة عن شروطه، أو ما لم يتنازل كل من طرفي الأزمة معًا عن جزء من شروطهما ليصلا إلى نقطة إلتقاء وسطيّة. وبالتالي، في حال بقيت المَواقف التي سمعناها منذ أكثر من شهر حتى تاريخه على حالها، يبدو أنّ الغيمة السوداء ستبقى في سماء لبنان في المرحلة المُقبلة، للأسف.

في الختام، بعد إحراقورقة المُهندس الخطيب، وإعادة إحياء ورقة رئيس "تيّار المُستقبل"، عادت المُفاوضات إلى نقطة الصفر! والمُفارقة أنّه في حين أنّ الصراع السياسي على أشده بين "أهل السُلطة"–إذا جاز التعبير، مع كل إمتداداتهم الإقليميّة والدَوليّة، فإنّ الناس في الشارع في مكان آخر تمامًا. وإذا كان الحوار مَفقودًا بين "أهل السُلطة" أنفسهم، للوُصول إلى قاسم مُشترك في ما بينهم، فهل يُمكن أن نأمل بحُصول تواصل بين "أهل السُلطة" والناس المُتظاهرين ضُدّهم في الشارع؟!.