مجدّداً أقدم رئيس حكومة ​تصريف الأعمال​، ورئيس ​كتلة المستقبل​ النيابية سعد الحريري، على حرق اسم جديد اتفق عليه لتأليف حكومة تكنوسياسية، هو ​سمير الخطيب​، لينضمّ إلى من سبقه في التسمية والتراجع عنها، وهما الوزيران السابقان ​محمد الصفدي​ وبهيج طبارة… ومجدّداً تعود المشاورات للخروج من أزمة تشكيل الحكومة إلى نقطة الصفر..

ما جرى كان مفاجئاً للجميع لأنّ اعتذار الخطيب جاء عشية بدء الاستشارات التي كانت مقرّرة اليوم الاثنين، وذلك على اثر اجتماعه مع مفتي ​الجمهورية​ ​عبد اللطيف دريان​ الذي أبلغ الخطيب انه يدعم ترشيح الرئيس الحريري، وقد فهم الخطيب الرسالة وسارع إلى إعلان اعتذاره… هذا يعني، كما قلنا في مقال يوم السبت، انّ الرئيس الحريري غير موافق على تشكيل حكومة تكنو سياسية، وهو ترك الأمور حتى اللحظة الأخيرة لإحباط وإجهاض الاتفاق بشأنها، لانه لو كان فعلاً موافقاً على ذلك لكان هو من قبل بتشكيلها، ولكان حصل مسبقاً على موافقة واشنطن التي وضعت شرطان لقبول الرئيس الحريري وبقية الأطراف المكوّنة لقوى ١٤ آذار، هما، أن تكون الحكومة مكوّنة من التكنوقراط المستقلين تتمتع بصلاحيات تنفيذية وتشريعية استثنائية وتكون برئاسة شخصية موثوقة من الولايات المتحدة الرئيس الحريري او غيره، ولا تتمثل فيها الأحزاب السياسية، والهدف طبعاً إقصاء ​حزب الله​ وحلفائه عن السلطة التنفيذية، كما أعلن بوضوح قبل أيام وزير الخارجية الأميركي ​مايك بومبيو​، أما الشرط الثاني فهو ان تجري هذه الحكومة انتخابات مبكرة وفق قانون جديدة، وربط تقديم المساعدات للبنان بما فيها قروض سيدر بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، أميركياً، بحيث تقدّم المساعدات بشكل تعاقبني مع كلّ خطوة تنفذها الحكومة..

ولأنّ هذه هي الشروط الأميركية، فقد أعلن الرئيس الحريري صراحة انه لن يشكل إلا حكومة من هذا النوع وبهذه الشروط.. ولهذا يقوم بتعطيل تشكيل ايّ حكومة مخالفة لذلك ويعمل على رفع الغطاء عن أيّ اسم يتمّ التوافق عليه ويحرق الأسماء التي يتمّ ترشيحها بموافقته.. في سياق تكتيك يستهدف المماطلة والتسويف ومفاقمة الأزمة السياسية وتوظيف الأزمة الاقتصادية والنقدية والمالية وما تسبّبه من ازدياد في حدة المعاناة المعيشية للمواطنين للضغط على ​الرئيس ميشال عون​ وحلفائه حزب الله و​التيار الوطني الحر​ وحركة أمل والاحزاب الوطنية الأخرى لجعلهم يرضخون لشروطه المذكورة آنفاً..

ولأنّ هذه هي النتيجة التي أفضت إلى حرق سمير الخطيب، وعدم توافر اتفاق على تشكيل حكومة تكنو سياسية، أقدم الرئيس عون على تأجيل الاستشارات التي كانت مقرّرة أمس..

هذا يعني انّ الأزمة مستمرة ومفتوحة، في ظلّ عدم رغبة الفريق الوطني، الذي يملك الأكثرية النيابية، تسمية شخصية منه لتأليف الحكومة، لتجنّب اندفاع الأمور نحو المواجهة والانقسام في ظلّ توجه أميركي غربي لفرض الحصار الخانق على لبنان وعزله وتدمير اقتصاده لمنع الحكومة من الحكم وإفشالها عبر الشارع الغاضب من تفاقم الأزمات والانهيار المتزايد في القدرة الشرائية..

لكن في المقابل فإنّ الخطة الأميركية التي تعمل على تعطيل ايّ حكومة لا تنسجم مع الشروط الأميركية، يقود يومياً إلى تفاقم في الأزمة ودفع البلاد يوماً بعد الآخر نحو مزيد من الانهيار الاقتصادي والمالي وتراجع قيمة الليرة.. لأنه مع كلّ يوم تستمرّ فيه الأزمة وحالة الشلل الاقتصادي وغياب الحكومة التي تستطيع أخذ القرارات، تتكبّد البلاد خسائر كبيرة وترتفع معها فاتورة معالجة الأزمة، في حين تقفل المزيد من المؤسسات ويسرح موظفوها، بينما تدفع مؤسسات أخرى نصف راتب للعاملين فيها، وهي مهدّدة بالإقفال اذا ما استمرت الازمة.. كل ذلك يقود بدوره إلى زيادة حدة معاناة الناس الاقتصادية والمعيشية، وهذا ما تراهن عليه واشنطن والأطراف التابعة لها لأجل دفع الناس للنزول إلى الشارع احتجاجاً على تدهور أوضاعها المعيشية…

هذا المسار للأزمة يطرح على الفريق الوطني تحدياً كبيراً، يتطلب مواجهته بخطة مضادة تحبط هذه الخطة الأميركية الانقلابية لتغيير المعادلة السياسية من خلال السيطرة على السلطة التنفيذية من قبل الأطراف التي تدور في فلك سياسة واشنطن.. لأنّ انتظار موافقة الرئيس الحريري على تشكيل حكومة تكنو سياسية لن يفضي إلى نتيجة، وما حصل حتى اليوم يؤكد ذلك، ويدلّل على أنه من العبث الرهان على تراجع الحريري عن موقفه، لأنه مرتبط بالموقف الأميركي..وسيكون خيار الانتقال من حالة الانتظار، والدفاع السلبي، لإحباط المخطط الأميركي لاستغلال أزمات اللبنانيين لاحداث الانقلاب على السلطة السياسية، الى حالة الدفاع الايجابي او الهجوم الإيجابي هو السبيل الذي لا بدّ منه، مع الأخذ بالاعتبار حجم التحدي الذي سيترتب على مثل هذا الخيار، لكن بالإمكان تجاوز هذا التحدي وإحباط محاولات عزل لبنان من خلال تشكيل حكومة وطنية سيادية تحزم أمرها في الاتجاه شرقاً وتنويع خيارات لبنان الاقتصادية والمالية، لا سيما انّ العديد من الدول الصاعدة اقتصادياً وتملك إمكانيات وقدرات مالية واقتصادية وخبرات وتقنيات متطورة مثل الصين وروسيا وإيران وغيرها من الدول المناهضة للهيمنة الأميركية، قد أبدت الاستعداد لمساعدة لبنان في حلّ أزماته الخدماتية وتطوير بناه التحتية، هذا الى جانب انّ الاتجاه شرقاً بدءاً بسورية هو السبيل المتاح للحصول على تسهيلات لتصدير الإنتاج الوطني الزراعي والصناعي وحلّ أزمة النازحين السوريين، لكن كلّ ذلك لا يحتاج سوى إلى قرار سياسي حكومي.. يكسر الحظر الأميركي الذي منع لبنان طوال السنوات الماضية من سلوك هذا الخيار لحل أزماته.