في اللحظات الأخيرة، قبل غرق المركب، لا تزال هناك فرصة للنجاة. المهمّ ألّا يظنّ أحد من الركاب أنه قادر على احتكار سترات النجاة وإنقاذ رأسه وحده... أو أنه وحده خبير بالغوص و​السباحة​ حتى شاطىء الأمان. ففي حالات من هذا النوع، يغرق المركب بركابه كلِّهم... «كلُّن يعني كلُّن»!

في نظر البعض، المسألة عالقة اليوم عند ما يأتي: في أي نقطة سيتم التوافق بين ​الولايات المتحدة​ وإيران في ​لبنان​؟ وكل ما عدا ذلك ​تفاصيل​. ويسأل:

هل هي صدفة أن تندلع المواجهة على كامل رقعة «الهلال الإيراني»، من ​بيروت​ إلى ​بغداد​ ف​طهران​، في آن واحد، وتحت العناوين إيّاها ووفق سيناريوهات متناغمة تماماً؟

وتحت هذا العنوان، يندفع «حزب الله» إلى التشكيك في الشعارات التي ترفعها ​الانتفاضة​، ويقول: نحن في صفّ واحد معكم ضد ​الفساد​ و​الفاسد​ين. لكننا نخشى أن تكون انتفاضتكم جزءاً من «الأجندة» الأميركية الهادفة إلى إضعافنا.

طبعاً، تبذل الانتفاضة جهوداً مضنية منذ اليوم الأول لإثبات أنها لا تريد إلّا بناء دولة حديثة نظيفة، دولة المؤسسات، وأنها لا تستمع إلى أحد في الخارج. حتى إنها لا تحبِّذ صدور مواقف خارجية داعمة لها، لئلّا تُحسَب عليها، وقد أصدرت بيانات الاستنكار لبعضها، من باب تقديم البراهين.

على رغم ذلك، يصرُّ «حزب الله» على وجود ارتباط بين الانتفاضة والقوى الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة… ويقول: لو لم يكن الأمر كذلك، لكنّا أمامكم في الشارع ضد الفساد. وأساساً، في اليومين الأولين، نزل مناصرونا معكم جنباً إلى جنب.

إذاً، هناك حلقة ضائعة بين «الحزب» وقوى الانتفاضة. ويمكن أن تتكوَّن هذه الحلقة عن طريق ما يأتي:

1- أن يثبت «حزب الله» أنه أكثر شراسة وعملانية من الانتفاضة في معركتها ضد الفساد.

2- أن تثبت الانتفاضة أنها لا تريد في أي شكل من الأشكال «رأس الحزب»، وأنّ معركتها محصورة بالفساد وبناء ​الدولة​.

طبعاً، هذه المعادلة النظرية ليست سهلة التحقيق. وقد تبدو وهمية للبعض. فـ»الحزب» طالما أطلق رسائله الرافضة للفساد من طاولة ​مجلس الوزراء​، ووقف مراراً حتى مع خصومه السياسيين عندما كانوا يطالبون بالشفافية في المناقصات. لكنّ انتفاض «الحزب» بالكامل على هذا الطاقم الفاسد يصبح أمراً شائكاً، لأنّ الشراكة التي قامت عام 2016 قَضت بتسوية بينه وبين هذا الطاقم السياسي الملوَّث نفسه. فإذا سقط هذا الطاقم ستسقط التركيبة برمتها. وعندئذٍ، سيخسر «الحزب» تغطيته الثمينة التي يتمتع بها، ولن يكون هناك مجال لاستعادتها.

ومع أنّ «حزب الله» يحرص فعلاً على صورته كمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لا تنغمس في الفساد الداخلي، فإنه لا يبدو مستعداً لفكّ ارتباطه بهذه الطبقة، مع أنها باتت مشبوهة إلى حدّ أنها لم تعجز عن مواجهة الاتهامات اللاحقة بها، سواء في الداخل أو أمام المرجعيات الدولية التي تستعطي منها المساعدات.

ولا يناسب «الحزب» إطلاقاً أن يقوم أحد بتلويث صورته، عن طريق الربط بين ​المقاومة​ وقوى الفساد المعروفة. وأهم نقطة قوة له هي هذه الرمزية. لكنه، في الواقع، يتخبّط في مكان شديد الإحراج له، وهو الوقوف مع طبقة فاسدة في وجه انتفاضة لا تنادي إلّا بمواجهة الفساد.

ويعرف «الحزب» أنّ هذه التركيبة هي التي ارتكبت أشنع الموبقات صراحةً في حق الدولة والخزينة والمؤسسات والشعب، وهي التي أوصلت لبنان إلى الكارثة عن سابق علمٍ منها وتصميم. ولذلك، هو يدافع عن بقاء هذه الطبقة… من دون أن يدافع عن أعمالها. وهذا أمر مُربِك فعلاً.

في الموازاة، تحرص الانتفاضة على عدم تخصيص «حزب الله» أو رموزه بأي انتقاد. وانتقاداتها تستهدف الطبقة السلطوية كلها، فلا تستثني أحداً ولا تخصِّص أحداً. وهي مثلاً لم تتطرق إلى مسائل ​السلاح​ وقرار الحرب والسلم، كما كان الأمر بالنسبة إلى ​14 آذار​ في زمن انتفاضتها. فقط هي تكتفي بالعناوين، ولا تدخل في التحديدات لئلّا تصطدم بأحد. وهذا أمرٌ جدير بالملاحظة.

وللتفصيل، الانتفاضة مؤلفة أساساً من قوى مدنية تركّز خصوصاً على الجوانب الحقوقية والفكرية والاجتماعية من المأزق اللبناني، ومِن قوى يسارية يذهب بعضها أبعد من «حزب الله» في رؤيته الاستراتيجية. ولذلك، تستهجن قوى الانتفاضة أن تُرمى باتهامات لا أساس لها إلا لتبرير استهدافها.

وإزاء هذه المعادلة، يصبح ممكناً طرح السؤال: هل تحدث المعجزة ويلتقي الطرفان؟

أي، هل يقتنع «الحزب» بأنّ مستقبله مع الانتفاضة، وأنها هي الشريك الجدير بالحياة وبناء دولة حقيقية؟ وهل يقتنع بأنّ هذه الانتفاضة لن تنطفئ قبل إنهاء الفساد وإقصاء الفاسدين؟

من جملة المناورات السياسية الدارجة، ماذا لو قام «الحزب» بتجربة ليتأكد من صدقية الانتفاضة؟

ثمة مَن يطرح أن يُسارع «الحزب» اليوم إلى وضع طاقاته كلها، وهو الأقوى بالمعلومات والقدرات، فيكشف الفاسدين جميعاً، أي يقف مع الانتفاضة، ويدعمها عملانياً بالبدء فوراً بإعادة ​الأموال المنهوبة​ إلى خزينة الدولة، وهي معروفة وأبطالها معروفون. وعندئذٍ، سيكتشف: هل الانتفاضة ستكتفي بإنهاء الفساد وبناء الدولة أم ستراهن على القوى الخارجية لإضعافه؟

إذا نجحت التجربة، سيُبنى عقد اجتماعي يبادر إليه «الحزب» والانتفاضة، على النظافة، وسيُكتب له ​المستقبل​.

سيُطالَب «الحزب» بالتخلّي عن امتيازات تتعلق ببعض المعابر أو ​الجمارك​ أو مرافق أخرى، ما يعيد إلى الدولة موارد مفقودة. وهذا أمر بالتأكيد يستطيع «حزب الله» تقديمه ثمناً للصفقة التاريخية المرجوّة، والتي يمكنها أن تنقل لبنان من حالٍ إلى حال.

وكذلك، ستكون الوسيلة المثالية لمنع تدخّل الأميركيين وسواهم في لبنان هي إبعاد لبنان عن ساحات الصراع الإقليمي. وهنا يبدو دور «الحزب» أساسياً. وبناء عليه، يمكن مباشرة التصميم للعقد الوطني الجديد، على أرض نظيفة وثابتة. فهل يفعّلُها «حزب الله»؟