لا تزال الصورة الحكوميّة ضبابيّة منذ إعلان رجل الأعمال ​سمير الخطيب​ انسحابه من السباق إلى ​رئاسة الحكومة​ من ​دار الفتوى​، وفق قاعدة أنّ مفتي ​الجمهورية​ ​الشيخ عبد اللطيف دريان​ داعمٌ لرئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ ​سعد الحريري​، ما كرّس الأخير، بشكلٍ أو بآخر، مرشحاً شبه وحيد للمنصب، ولو قال إنّه زاهدٌ به ولا يريده.

لكن، وبعيداً عن السيناريوهات الحكوميّة التي بدأ تداولها، بانتظار تبلور ​الاتصالات​ السابقة لاستشارات الإثنين المقبل، طُرِحت الكثير من علامات الاستفهام حول "مغزى" الإعلان الصريح عن المفتي دريان، والذي عرّضه للكثير من الانتقادات، داخل البيت "السنّي" قبل خارجه، على غرار وصفه مثلاً من قبل النائب ​فيصل كرامي​ بأنّه أصبح "مفتي الحريري"، لا مفتي السنّة في ​لبنان​.

وأبعد من ذلك، ثمّة من يسأل عن موقع "​الثورة​" من كلّ ما حصل، هي التي بنيت على أساس ردم الهوة بين ​الطوائف​ والمناطق، في وقتٍ يخرج من بين "الثوار" من يقول إنّ عليهم "مراعاة" التركيبة الطائفية، والقبول بالحريري باعتباره مرشّح السنّة. فأيّ تفسيرٍ يمكن أن يُعطى لذلك، إلا إذا كانت "الثورة" تقرّ ب​العجز​ أمام "فدرالية الطوائف" التي تتمدّد أكثر وأكثر؟!

انتقاداتٌ بالجملة...

كثيرةٌ هي الانتقادات التي وُجّهت منذ الأحد الماضي، إلى دار الفتوى والمفتي دريان، على خلفيّة الموقف الذي نقله عنه المرشح السابق لرئاسة الحكومة سمير الخطيب والذي دفعه إلى الانسحاب والاعتذار عن عدم إكمال المشوار، وذلك لجهة إعلانه الصريح أنّه لا يريد أحداً غير سعد الحريري في رئاسة الحكومة، بل حديثه عن مشاوراتٍ أجراها مع من وصفها بالقوى الإسلاميّة، أفضت إلى التوافق على تسميته.

ومن الانتقادات التي وُجّهت لدريان، ولو قال البعض إنّه ليس مسؤولاً عن كلامٍ لم يصدر عنه بشكلٍ مباشر، أنّه سجّل بذلك خرقاً للدستور والقانون، بل ل​اتفاق الطائف​ الذي لطالما صبغه السنّة قبل غيرهم بخطٍ أحمر عريض، ذلك أنّ المفتي بإعلانه، من موقعه الديني، مرشحاً أوحد لرئاسة الحكومة، يقضي على كلّ مبدأ الاستشارات النيابيّة الملزمة، بل يضرب صلاحيّات النواب بعرض الحائط، وهم الذين أناط بهم ​الدستور​ اختيار المرشح الذي يجدون فيه المؤهّلات المناسبة لرئاسة الحكومة، بمُعزَلٍ عن أيّ ضغوطٍ من هنا أو هناك، وبالتالي بمُعزَلٍ عن "مباركة" المرجعيّة الدينيّة له من عدمها.

ومع أنّ معظم القوى السياسيّة تجاهر منذ فترةٍ غير بعيدة بتفضيلها الحريري على غيره لرئاسة الحكومة، انطلاقاً من مبدأ "القوي في طائفته" المُطبَّق في كلٍ من رئاستي الجمهورية والبرلمان، فإنّ حديث المفتي دريان عن استشاراتٍ أجراها مع القوى الإسلاميّة لتسميته أثار بدوره إشكاليّةً جدليّةً، خصوصاً أنّ رئيس الحكومة يُكلَّف باسم كلّ اللبنانيين، وليس باسم فريقٍ طائفيّ محدَّد، ولو أنّ الدستور اشترط أن يكون من ال​طائفة​ السنّية، فالمنصب هو سياسيّ بامتياز، وليس منصباً شرفياً دينياً أو مذهبياً بأيّ شكلٍ من الأشكال.

ليس سابقة!

على رغم كلّ ما سبق من انتقاداتٍ تبدو محقّة ومنطقيّة في جانبٍ كبيرٍ منها، خصوصاً في دولةٍ تدّعي المدنيّة ولو أنّها لا تطبّقها، فإنّ كلمة حقّ تُقال إنّ موقف المفتي دريان من استحقاق رئاسة الحكومة، ولو لم يصدر عنه مباشرةً، لا يشكّل عملياً سابقةً من نوعها لجهة انخراط المرجعيّات الدينيّة في الاستحقاقات السياسية، بل دخولها لاعباً أساسياً على خطّها.

وقد تكون الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة دليلاً على ذلك، مع انخراط البطريرك الماروني ​بشارة الراعي​ مباشرةً على خطّ كواليسها، ولا سيما بعد الاجتماع الرباعي الذي عقد في ​بكركي​، وأفضى إلى تحديد أربعة مرشحين للرئاسة، علماً أنّ المعترضين على موقف المفتي كانوا من محبّذي تحرك الراعي رئاسياً، على رغم أنّ المعايير نفسها تنطبق عليه، ولو أنّ البعض يردّ ذلك إلى الفراغ الرئاسيّ، الذي تطلّب من المرجعيّة الدينيّة عدم السكوت.

وليس خافياً على أحد أنّ الطوائف الأخرى لا تغرّد خارج هذا السرب، فللشيعة مرجعيّاتهم أيضاً، وإن كان حضورها في الاستحقاقات أقلّ وطأة، باعتبار أنّ ​الثنائي الشيعي​ ينجح في فرض شروطه ومعاييره من دون تدخّلها، وكذلك للدروز مرجعيّاتهم، بل إنّ واقع طائفة الموحّدين ​الدروز​ قد يكون الأكثر إثارةً للجدل، بعدما أصبح لكلّ فريقٍ داخل الطائفة مفتيه الخاص، الذي يتحدّث باسمه، وينطق بمطالبه، عند كلّ أزمةٍ وجوديّة.

بيد أنّ السؤال الذي يطرح نفسه، إزاء كلّ ما سبق، أين "الثورة" من كلّ هذه المعمعة؟ ألم تقم "الثورة" على أساس ردم الهوة بين الطوائف والمناطق، بل على أساس إلغاء ​الطائفية السياسية​؟ أليس ما يحصل تكريساً لـ "فدرالية الطوائف"، بشكلٍ أو بآخر؟ لماذا لم يُسمَع أصوات "الثوار"، اعتراضاً على موقف المفتي دريان مثلاً؟ وهل صحيح أنّهم يحاذرون الدخول في مثل هذه السجالات، انطلاقاً من "مراعاتهم" للتركيبة الطائفية اللبنانية المعقّدة، خصوصاً أنّ مِن بينهم مَن لم ينزع الرداء المذهبيّ عن نفسه، ولو نزع ذلك الحزبيّ، إن فعل، وهو أمرٌ، إن صحّ، يطيح بكلّ الأسس التي بنيت عليها "الثورة" افتراضياً؟!.

التحدّي الحقيقيّ...

قد لا تُلام دار الفتوى على انخراطها في معركة رئاسة الحكومة، التي لا يزال كثيرون يعتبرونها معركة السّنّة، تماماً كما لا تُلام ​البطريركية المارونية​ على دخولها على خطّ ​الانتخابات الرئاسية​، ولا تُلام أيّ من المرجعيّات على انخراطها المباشر في ​السياسة​، بعيداً عن مبدأ فصل الدين عن السياسة.

لا يُلام كلّ هؤلاء، برأي كثيرين، لأنّ "هذا هو لبنان"، أي بمعنى آخر، أنّ الواقعيّة السياسيّة تتطلّب الإقرار بالدور الرمزيّ المحوريّ الذي تمتلكه المرجعيّات الدينيّة في تحريك لعبة السياسة، خصوصاً في مراحل الأزمات، بل إنّ هناك من يرى أنّ رجال الدين "أوعى" من رجال السياسة، وهم بالتالي قادرون على إطفاء لهيب السياسة في المحَن.

لعلّ التحدي الحقيقيّ الأكبر الذي يجب على "الثورة" أن تواجهه يكمن هنا بالتحديد، وإلا لن يُكتَب لها نجاح في أيّ من ​الميادين​، فتماماً كما يوضَع خط أحمر اليوم حول شخص الحريري أو غيره لرئاسة الحكومة، ستوضَع خطوط حمراء بالجملة حول كلّ "رموز" الطبقة السياسية، بمختلف اتجاهاتها، ما سيفرمل أيّ اندفاعةٍ يمكن أن تحصل.

باختصار، لا تستخدم القوى السياسية، متفرّقةً أو مجتمعةً، ورقة الدين اليوم عن عبث، ولذلك فإنّ تصويب البوصلة يقتضي الاعتراف بأنّ إلغاء الطائفيّة السياسيّة يجب أن يكون هدف "الثورة" الأول، بالتوازي مع ​محاربة الفساد​ بوصفه علّة العلل...