منذ إنطلاق الحراك الشعبي، كان رئيس التيار "الوطني الحر" الوزير ​جبران باسيل​ أبرز المُستهدفين، لا بل تعرّض أكثر من غيره لإنتقادات، وطالته بعض الشعارات المسيئة بشكل مباشر وشخصي ومعيب. قد تكون الممارسة السياسية ونوعية الخطاب اللذين كانا يستخدمهما باسيل يستفزّان جمهوراً واسعاً، لكن تدريجياً ظهرت أبعاد أخرى في الحملة على رئيس "الوطني الحر"، بعد تصلّب رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري في إبعاد باسيل عن أي حكومة يترأسها "الشيخ سعد". ماذا في خفايا الإبعاد؟.

كان الرجلان متفاهمين طيلة السنوات الماضية، على الأقل منذ عقدا صفقة سياسية أثناء الإنتخابات الرئاسيّة التي أوصلت رئيس الجمهورية ميشال عون إلى قصر بعبدا. تضايق حلفاؤهم وخصومهم من ترجمة بنود تلك الصفقة، إلى حد صوّرت قوى سياسية باسيل بأنه هو الذي يدير الدولة بكل مفاصلها التنفيذية والحكومية. حينها قيل أن الحريري يتنازل عن صلاحيات رئاسة الوزراء من أجل الحفاظ على صفقته مع باسيل.

فجأة، هوى كل ذلك دفعة واحدة، فسقطت التسوية الثنائية، ولم تُفلح جهود أحد رجال الأعمال الصديق المشترك للرجلين، في إعادة الروح الى تلك الصفقة او استيلاد واحدة شبيهة بديلة تراعي المتغيّرات. لماذا أصرّ الحريري على عدم إشراك باسيل في أي حكومة آتية؟ هل هو قرار داخلي صرف؟ أم هناك دفع خارجي لإبعاد وزير الخارجية والمغتربين عن الواجهة؟.

لم يظهر أيّ مؤشّر دولي ولا إقليمي ولا عربي واضح عن رغبة خارجية لمنع باسيل من التواجد على طاولة مجلس الوزراء. اساساً، الكلّ في العواصم الفاعلة والمؤثّرة بمسار الساحة اللبنانيّة، مشغول بتحوّلات أخطر وأكثر أهمية من تفاصيل لبنان. لم يهتزّ رمش سعودي لإبداء أيّ تدخّل سياسي في لبنان الآن. ولم تُظهر الإمارات العربية المتحدة أي مؤشر حول تدخلها بالأمور السياسية اللبنانية. يقول مطّلعون: مشكلة الحريري أن احداً لم يشجّعه أو يحذّره من الغوص في ملفّ الحكومة بالإقدام او الإحجام. قد يكون هو تبرّع للقيام بخطوات تُرضي شارعه الأزرق، وحلفاءه العرب. هنا سجّل مطّلعون أن حجم المشاركة الشعبيّة في الحراك، والشعارات التي وُجّهت نحو باسيل، ساهمت في إبتعاد الحريري عن شريكه في الصفقة السياسية المتهالكة. هناك من نصح "الشيخ سعد" بضرورة التماهي مع حراك الشارع. يخدم الإبتعاد زعامة الحريري التي أُصيبت شعبياً في السنوات الثلاث الماضية لصالح خصومه، كما أظهرت أرقام صناديق الإقتراع في الإنتخابات النيابيّة الأخيرة. هو الآن يستعيد أمجاد العلاقة التاريخيّة مع ساحته السنّية، شعبياً، ودينياً، وسياسياً، بدليل حراك رؤساء الحكومات السابقين، وموقف دار الفتوى الأخير بشأن تكليف رئيس لتأليف الحكومة. أمّا التظاهرات أو قطع الطرق في البقاع الأوسط والشمال وبيروت، فهي أعادت إحياء العلاقة بين تيار "المستقبل" وجمهور سنّي كاد يبتعد عن الخط الأزرق.

يدرك الحريري ان رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي يترأس كتلة نيابية طرابلسية، وقد يتوسع الى خارج الفيحاء، وأن النائب فؤاد مخزومي حقّق نجاحاً لافتاً في بيروت، وأن النائب عبدالرحيم مراد هو رقم صعب في البقاع، والنائب أسامة سعد إستعاد مجد "التنظيم الشعبي الناصري" في صيدا، والنائب جهاد الصمد يتمدّد من الضنّية الى المنية وطرابلس. كل هؤلاء يعكسون واقع الساحة السنّية سياسياً، لذلك أقدم الحريري على خطوة الالتفاف على الحراك لجذب مجموعات منه وإستيعاب النقمة في تلك الساحة السنّية بالدرجة الأولى.

نجح الحريري نسبياً، وخصوصاً أن "الثنائي الشيعي" حركة "أمل" و "حزب الله" تمسكا بالحريري مرشّحاً لتولّي زمام الحكومة في المرحلة المقبلة. أصرّ "الشيخ سعد" على شروطه، فبقي "الثنائي الشيعي" ملتزماً بترشيحه، بينما كان يفسّر ذلك بأن الثنائي المذكور فضّل الحريري على باسيل. من هنا جاءت أبرز دوافع رئيس "الوطني الحر" في الإبتعاد عن الحكومة، ووضعه معايير لطبيعة التشكيلة الآتية. يكون باسيل بذلك قد رمى الطابة في ملعب الحريري، فإستفاد زعيم البرتقالي في محاكاة الحراك، وكسب مسيحياً بعد تدهور شعبيّته في الآونة الأخيرة. وأربك رئيس الحكومة المكلّف بعد حين، خصوصا اذا لم ينخرط حزب "القوات" بالحكومة الجديدة.

لكن هل يعني إبتعاد باسيل هو ضربٌ لتحالفاته بكل الإتجاهات؟.

لم يعد هناك من تحالف بينه وبين الحريري، لا بل إن مشروع الخصومة موجود على جدول أعمال التيارين الأزرق والبرتقالي. أمّا "الثنائي الشيعي" الذي فضّل "الشيخ سعد" على شروط باسيل، لإعتبارات جوهريّة داخليّة وخارجيّة، لا تتعلّق بالشراكة السياسية فحسب، فهو ساهم في إبتعاد باسيل عنه خطوات، رغم اللقاء الودّي بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ووزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال، والعلاقة الإستراتيجيّة بين باسيل و"حزب الله".

يبدو أن قراءة المرحلة المقبلة تتطلّب الهدوء والتأنّي، خصوصا اذا كانت حسابات الإنتخابات الرئاسيّة الآتية بعد ثلاث سنوات في خطط السياسيين الآن. هل يؤثر الإبتعاد أو الإبعاد على وضعيّة باسيل؟ صمت رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية يزيد من خلط الأوراق الآتي الى الساحة اللبنانيّة. المهمّ الآن عند الشعب هو الوضع الإقتصادي. وهو أبرز عنوان دافع لبت أمر التسويات الحكوميّة، رغم انّ كلّ التوقّعات السّياسية لا ترى حكومة وليدة بسرعة، في ظرف لبناني صعب جدا.