لعل الرئيس سعد الحريري لم يكن يتوقع ان يستخدم رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع «قوة الصدم» السياسية لمحاصرة فرصة تكليفه بتشكيل الحكومة، وان يسحب فجأة «لقمة التسمية» من داخل فمه. كان كل شيء جاهزاً لإتمام التكليف الاثنين الماضي وفق السيناريو الذي رسمه الحريري، إلّا انّ «انتفاضة الفجر» التي قادها جعجع، المتخصّص في الانتفاضات، باغَتته ومنعته من إكمال طريقه الى قصر بعبدا، فطلب تأجيل الاستشارات وأكبّ على مراجعة حساباته.

لم تنجح المهمة العاجلة لمستشار الحريري الوزير السابق غطاس خوري، قبَيل ساعات من انطلاق استشارات الاثنين الماضي، في إقناع جعجع بالتصويت للحريري. إستمع رئيس «القوات» الى مطالعة موفد «بيت الوسط» وبحث معه في تفاصيلها، لكنه لم يُعطه جواباً واضحاً وقاطعاً، وأبلغ اليه انّ القرار النهائي سيُدرس في اجتماع تكتل «الجمهورية القوية» ليلاً.

في مستهل الاجتماع الذي استمر من التاسعة والنصف مساء الاحد حتى الأولى والنصف فجراً، قدّم جعجع عرضاً كاملاً حول الاستحقاق الحكومي والاحتمالات الممكنة والخيارات البديلة ومضمون الطرح الذي حمله خوري الى معراب، والاتجاه السائد لدى القاعدة القواتية، ثم فتح باب النقاش الذي أظهر وجود فرز بين وجهتي نظر حيال خيار تسمية الحريري.

وتفيد المعلومات أنّ نحو 75 في المئة من المجتمعين رفضوا تسمية الحريري لرئاسة الحكومة بينما أيّد 25 في المئة منهم تكليفه، مع الاشارة الى أنّ اجتماعات «الجمهورية القوية» يحضرها الى جانب جعجع كلّ من الوزراء والنواب الحاليين والسابقين ومدير مكتب رئيس «القوات».

وقد استفاض كلّ من طرفي النقاش في شرح مقاربته، وتحديد الأسباب الموجبة التي تكمن خلف الاعتراض أو الموافقة على تكليف الحريري، فيما وصفَ أحد الحاضرين جلسة المداولات بأنها كانت أشبه بجلسة «عَصف ذهني»، عُرضت خلالها معادلة التكليف والتأليف من كل الزوايا، لينتهي الأخذ والرد الى اتخاذ قرار «أكثري» بالامتناع عن تأييد الحريري.

بالنسبة الى معراب، كان لا بد من توجيه رسالة صريحة الى «بيت الوسط» فحواها: «نحن لسنا في جيب أحد ولا يمكن لأيّ كان ان يتصرف على أساس انّ «القوات» مضمونة له. ولو انّ الحريري زار شخصياً معراب بعد استقالته وبحث معنا في ملابسات المرحلة السابقة وطريقة معالجة ما ظَهر من خلافات بيننا لكان طلبه بأن نسمّيه واقعياً، اما ان يبعثَ في آخر لحظة موفداً له لمحاولة استدراك الامر من دون معالجة عميقة لأسباب التباينات فهذا لا يفيد».

وارتكزت فلسفة القرار القواتي على قاعدة انّ التسمية المشروطة هي الورقة القوية الوحيدة التي تملكها معراب للضغط في اتجاه تعزيز فرَص تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين، فإن فرّطت بها من دون أن تضمن مسبقاً تصميم الرئيس المكلّف على اعتماد هذا الخيار تكون قد تخلّت مجاناً عن عنصر قوتها في التفاوض، وهذا ما دفعها الى ربط منح الثقة بالتأليف وليس بالتكليف.

وخلال المداولات، ربط معارضو تكليف رئيس «تيار المستقبل» موقفهم بضعف الثقة في الحريري استناداً الى حصيلة التجارب السابقة معه، قائلين ما معناه: «صحيح اننا نلتقي وإيّاه على ضرورة تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين، لكن من يضمن ان يبقى متمسّكاً بهذا المبدأ بعد تكليفه، خصوصاً انّ تجربتنا معه أظهرت أنه يبدأ المفاوضات مع الآخرين من سقف مرتفع ثم يلجأ الى تخفيضه بذرائع عدة، كما فعل، على سبيل المثال، أثناء التفاوض على تشكيل الحكومة المستقيلة، حيث وعدَ «القوات» آنذاك بحصة وزارية وازنة، ثم راح يعدّل فيها تباعاً لينتهي به الأمر في آخر المطاف الى تخييرنا بين ان نقبل ما هو مطروح علينا وبين ان نرفضه ونخرج من المعادلة الحكومية. وبالتالي، ماذا يمنع ان يتكرر السيناريو الآن، فنكلّفه على أساس انه سيؤلف حكومة اختصاصيين مستقلين، ثم لا يلبث ان يتراجع عنها لاحقاً بحجة انّ العهد او «حزب الله» لم يقبل بها ولا يمكن ان يستمر الفراغ الى ما لا نهاية».

ويعتبر اصحاب هذا الرأي أنّ الوضع حالياً هو أشد خطورة ودقة من قبل، «ونحن لم نعد نتحمّل خَوض أي مغامرة غير مضمونة النتائج مع الحريري، لأنّ القضية لا تتعلق بحصة «القوات» تحديداً، بل بمصير لبنان الذي لا يمكن إنقاذه سوى من خلال حكومة اختصاصيين مستقلة، وخشيتنا، إذا سُمّي الحريري، هي مما قد يحصل في المسافة الفاصلة بين التكليف والتأليف، بحيث يُكلّف حاملاً لواء حكومة اختصاصيين مستقلّين، ثم يرسو بعد حين على تكنو-سياسية».

ويشدد هؤلاء على انّ الخلاف هذه المرة لا يتصل بالتسمية في حد ذاتها او بالتوازنات وتوزّع الحصص في مجلس الوزراء، «بل يتمحور على طبيعة الحكومة وهل تكون تكنو- سياسية ام اختصاصية مستقلة ام تكنوقراط ميثاقية؟ كما يقترح «التيار الحر»، ولذلك قاربنا مسألة الرئيس المكلف انطلاقاً من كونها يجب ان لا تنفصل عن هوية الحكومة الجديدة التي هي عنوان المرحلة أكثر مما هو الشخص الذي سيكلّف بتشكيلها».

عامل أساسي آخر استند اليه الفريق القوّاتي الرافض تسمية الحريري، وهو مزاج القاعدة القواتية التي تعاملت بسلبية شديدة مع احتمال تكليفه. وإذا كان قرار جعجع بالاستقالة من الحكومة بعد انتفاضة 17 تشرين الاول قد حَظي بتأييد الشريحة الاوسع من تلك القاعدة في مقابل أقلية معترضة، فإنّ اللافت هذه المرة انّ شارع «القوات» عارضَ بنسبة مئة في المئة تقريباً أن تسمّي معراب الحريري لرئاسة الحكومة، وفق التقارير او التوصيات المرفوعة من نواب تكتل «الجمهورية القوية»، والتي عكست الاتجاه السائد لدى الجمهور القواتي في المناطق التي يمثّلها هؤلاء النواب.

ومن الملاحظات التي أبداها الجمهور القوّاتي انّ الحريري ليس اختصاصياً ولا مستقلاً، فكيف تجوز تسميته لترؤس حكومة اختصاصيين مستقلين؟ «ثم اننا لم نتجاوز بعد ما فعله بنا طيلة المرحلة الماضية عندما وقف في صف جبران باسيل على حساب «القوات» وحقوقها، وليست لدينا ثقة في انه لن ينقلب علينا من جديد».

ويبدو انّ زيارة الوزير السابق غطاس خوري معراب «كهربَت» تلقائياً القاعدة القواتية التي ارتابت من مغزى الزيارة، وتخوفت من ان تكون تمهيداً لاتخاذ معراب قراراً بتسمية الحريري في الاستشارات الملزمة، فاستشاطت غضباً وانقلبت الدنيا رأساً على عقب في صفوف القاعدة الداعمة لسمير جعجع الذي التقط الرسالة وقرر ان ينسجم مع محتواها.

أمّا أصحاب الرأي الآخر في اجتماع معراب «العابر للفجر»، فقد ربطوا انحيازهم الى خيار تكليف الحريري بالاعتبارات الآتية:

- إنّ عدم تسمية «القوات» للحريري سيترك أثراً سلبياً كبيراً لديه، «وربما يؤدي الى تصدّع التحالف الاستراتيجي بيننا وبينه، ما يعني اننا ندفعه الى أحضان اصطفاف سياسي مختلف»، فأتى الرد على هذا الطرح بأنه سبق للحريري أن تخلى عن دعم ترشيح جعجع الى رئاسة الجمهورية لحساب سليمان فرنجية ثم ميشال عون، ومع ذلك لم يبدّل رئيس «القوات» موقعه السياسي، «والمعيار ذاته ينبغي ان ينسحب على الحريري الذي يُفترض ان تكون مواقفه نابعة من قناعات ثابتة لا من حسابات متحركة».

- انّ الحريري ينادي كما «القوات» بحكومة اختصاصيين مستقلين، «ولذا يجب أن يتفهّمنا الشارع إذا منحناه اصواتنا في استشارات التكليف، ثم انه يحظى بغطاء من المرجعية الدينية للطائفة السنية متمثلة في دار الفتوى، وكذلك من رؤساء الحكومات السابقين والبيئة الشعبية لتيار «المستقبل»، فلا يجوز تجاهل هذه الحيثيات التي تعطي اسمه الافضلية». وهنا، كان ردّ معارضي تسميته أنّ هناك علامات استفهام حول ما إذا كان سيستطيع أصلاً الثبات على الالتزام بحكومة اختصاصيين مستقلين، «إضافة الى انه لم يترك للصلح مطرحاً بعدما ذهب في تحالفه مع باسيل الى حدود الزواج الماروني، قبل ان يحصل الانفصال بينهما أخيراً».

- إنّ الامتناع عن تسمية الحريري سيكون كناية عن «تمريرة سياسية» لباسيل، الذي سيستفيد منها لتسهيل عملية استهداف رئيس «المستقبل» والانقضاض عليه، الأمر الذي من شأنه ان يحقق هدف «التيار» بإزاحة الحريري عن رئاسة الحكومة والمشهد السياسي، فكان الجواب أنه لا يصحّ أن تتراجع «القوات» عن موقف مبدئي من أجل مكسب تكتيكي يتصل بتحصين موقع الحريري في مواجهة «التيار»، «وعلى كلّ بمقدور الرجل أن يكمل مشوار التكليف من دوننا، فإذا وجدنا لاحقاً انه يعتمد في التأليف المعايير والمواصفات التي ننادي بها، ندعمه ونقف الى جانبه».