في لحظةٍ لم يستشرفها رئيس حكومة تصريف الأعمال ​سعد الحريري​ طيلة الشهرين الماضيين، تحوّل الرجل إلى "الحلقة الأضعف" في المعادلة، على أبواب تكليفٍ اعتقد أنّه سيكون مفروشاً بالورود أمامه، بعدما نجح في فرض شروطه عليه.

لم يتوقّع الحريري أن يصبح، في عيون كثيرين، مرشح "​حزب الله​ وحركة أمل" إلى رئاسة الحكومة، كما بدأت بعض الأوساط تصنّفه، ولم يتخيّل أن يقع في "الفخّ" الذي نصبه لغيره، فيضطر إلى طلب تأجيل الاستشارات تارةً، خلافاً لـ"مبدئيّةٍ" حاول إظهارها، وإلى "استجداء" ميثاقيّةٍ لتكليفه، أطاحت بكلّ "الثقة" التي أدار عبرها مفاوضات المرحلة الماضية.

لعلّ المشكلة الأساسية التي اصطدم بها الحريري، أو ربما "الإنجاز" الذي حقّقه ولو على حسابه الشخصيّ، كما يقول البعض، أنّه نجح في "جمع" الأحزاب المسيحيّة الرئيسيّة، التي تجاوزت خلافاتها، وارتأت الإطاحة به، في ما وصفه "المستقبليّون" بـ"تقاطع مصالح"، وقرأ به آخرون فرصة "انتقام" بشكلٍ أو بآخر...

"فرصة انتقام"

في خندقٍ واحدٍ، اجتمعت الأحزاب المسيحيّة الرئيسيّة، من "​التيار الوطني الحر​" إلى "​القوات اللبنانية​" مروراً بحزب "الكتائب"، رفضاً لتسمية رئيس حكومة تصريف الأعمال لتشكيل الحكومة الجديدة، ما أفقده "ميثاقيّة" اعتقد أنّها يسيرة، ووضعه في موقفٍ "حرجٍ"، بعد شهرين من الاستعراض والمناورات، وكأنّما السحر انقلب على الساحر.

وإذا كان موقف "الكتائب" جاء منسجماً مع ال​سياسة​ التي انتهجها الحزب منذ تسلم النائب ​سامي الجميل​ قيادته، والتي كلّفته "قطيعة" مع الحريري في وقتٍ سابق، فضلاً عن الخروج من "جنّة الحكم" وزارياً، والانكفاء إلى حدّ كبير نيابياً، فإنّ أكثر ما أثار استهجان "المستقبليّين" كان موقف "القوات اللبنانية"، والذي ذهب كثيرون إلى حدّ تشبيهه بتموضع "القواتيين" عند استقالة الحريري الشهيرة من العاصمة السعودية ​الرياض​.

لكنّ مثل هذا "الاستهجان" قد لا يكون مبرَّراً بنظر آخرين، باعتبار أنّ ما حصل شكّل فرصة لـ"القوات" من أجل ردّ الاعتبار لنفسها، و"الانتقام" من الحريري الذي ساهم في "تهميشها" على حساب "التيار الوطني الحر"، منذ إبرامه "​التسوية الرئاسية​" والتي كانت "القوات" أصلاً من "عرّابيها" قبل أن ينقلب طرفاها عليها بشكلٍ لا تزال عاجزة عن استيعابه حتى اليوم. ويذكّر "القواتيون" في هذا المجال، كيف أنّ الحريري الذي كان وعد "القوات" بحصّة وازنة في الحكومة السابقة، لم يتأخر في الرضوخ لشروط "التيار"، بل ذهب لاعتماد منطق "الابتزاز" مع "القوات" كما لم يفعل مع أحد غيرها، حين خيّرها بين القبول بما عُرض عليها، أو الخروج من الحكومة.

ومع أنّ "المستقبليين" يسردون سلسلة من "المآخذ" على النهج "القواتي" الذي ارتدى لبوساً "شعبوياً" على حساب الحريري، بدءاً من معارضة الموازنة، وصولاً إلى الاستقالة الفرديّة من الحكومة، فإنّ "القواتيين" يعتبرون كلّ هذه النقاط مجرّد ردود فعل على سياسة إقصاء وعزلٍ لم يجد الحريري "حرجاً" في الذهاب إليها، معتقداً أنّ مصلحته تكمن في الوقوف إلى جانب "العهد" حتى الرمق الأخير. ويرون أنّ "خطيئة" الحريري الكبرى أيضاً، أنّه اعتقد أنّه "يمون" على "القوات" التي ستقبل بتسميته بمجرّد أن يرسل "موفداً" إلى ​معراب​، في وقتٍ كان الحريّ به أن يتولى زمام المبادرة شخصياً، ويعقد جلسة "مصارحة" وربما "مصالحة" مع رئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​، كان من شأنها تغيير الكثير من الوقائع.

فخّ "الخطايا"

وإذا كانت رواية "القوات اللبنانية" لما حصل، وأدّى إلى ما أدّى إليه من تصدّعٍ في العلاقة مع الحريري، قد تحدّ "المصلحة السياسية" منه، كما قد "يعمّر" طويلاً، تحتوي من "العتب" ما تحتوي، فإنّ المسألة مع "التيار الوطني الحر" تبدو مختلفة، خصوصاً أنّ الأخير الذي انقلب أخيراً على الحريري، كان قد خاض مفاوضاتٍ ماراثونيّة معه قبل أن يعلن قراره بعدم المشاركة في حكومةٍ "مصيرها الفشل"، ما اعتُبِر مرادفاً لأيّ حكومةٍ يرأسها الحريري شخصياً.

وإذا كان كثيرون ينتقدون "التيار" الذي انقلب على صيغة الحكومة "التكنو-سياسية" بعدما وصل النقاش مع المعنيّين إلى حدّ البحث بالتفاصيل، بل بأسماء الوزراء وكيفية تقاسم الحقائب وغير ذلك، فإنّ "العونيّين" يقولون إنّ الحريري وقع في الفخّ الذي نصبه لغيره، بعدما توهّم لسببٍ أو لآخر بأنّه أصبح "الحاكم بأمره"، أو بأنه "المُنقِذ المُخلّص"، الأمر الذي أثبتت الوقائع عدم دقّته على الإطلاق، بل بيّنت أنّ "الإجماع" الذي ظنّ أنّه قادرٌ على حصده في السياسة والشارع انقلب عليه، إذ لم تتخلّ عنه الأحزاب المسيحية فحسب، بل أيضاً الشارع الذي لم يتردّد في إطلاق الهتافات المناهضة له، أسوةً بأسلافه الذين "أحرقهم" بنفسه، وإن تعرّض المتظاهرون لحملة "قمعٍ" غير مسبوقة، ربطها كثيرون بالموقف من الحريري.

ولعلّ "الخطيئة" الأكبر التي ارتكبها الحريري، بعد "ركوب موجة" الشارع، والاستقالة من الحكومة من دون التنسيق مع شركائه في الحكومة، وتحديداً مع "التيار"، أنّه رفع سقف شروطه إلى الحدّ الأعلى المُتاح، فلم يكتفِ بالمطالبة بحكومة "تكنوقراط" أو أخصائيين، أراد أن يسمّيهم بمفرده، بل ذهب إلى حدّ "اشتراط" إلغاء الأحزاب التي يفترض أن تمنح الثقة للحكومة أو تحجبها عنها، وإقصاء بعض الوجوه، على غرار وزير الخارجية ​جبران باسيل​، بذريعة أنّ الشارع "لفظهم"، وأنّه يريد حكومةً من أخصائيين لا سياسيّين، من دون أن يقبل بإسقاط السيناريو على نفسه، وفقاً للمنطق نفسه.

وفي وقتٍ يميّز "التيار" بين موقفه وموقف "القوات"، غير المنسَّق بطبيعة الحال، نظراً لانقطاع العلاقات بين الجانبين، وبمُعزَلٍ عن قدرة الحريري على "تليين" موقف "القوات" أو غيرها، فإنّ المطلوب برأيه من الحريري أن يأخذ "العبرة"، وأن يدرك أنّه لا يستطيع الاستمرار بالمنوال نفسه، والذي تطغى عليه "المزاجيّة الشخصية"، لأنّ "الإنقاذ" يتطلب مقاربة مختلفة، وأن يذهب سريعاً إلى تسمية شخصيّةٍ مشهودٍ لها، تستطيع تشكيل حكومة اخصائيين مدعومين من السياسيين، ويكونون قادرين على العبور بالبلاد إلى منطقة الأمان، وذلك قبل فوات الأوان.

خندق واحد؟!

مع إسقاط "تفاهم معراب" بالضربة القاضية، قيل إنّ "التيار" و"القوات" لا يمكن أن يعودا إلى "الخندق الواحد" أياً كانت الأسباب، بل إنّه إذا وجدا نفسيهما في لحظةٍ ما في خندقٍ واحدٍ لظروفٍ أو اعتباراتٍ معيّنة، فإنّهما لن يتردّدا في "الانقلاب" على نفسهما، "نكايةً" بالآخر، إن جاز التعبير.

هي الظروف التي وضعتهما اليوم ظاهرياً في خندقٍ واحدٍ، خندق اعتقد كثيرون أنّ "القوات" ستخرج منه سريعاً، وتتراجع عن موقفها بعدم تسمية أحد لصالح تسمية الحريري، منعاً لإعطاء "التيار" فرصة للانتصار على رئيس حكومة تصريف الأعمال، لكنّ ذلك لم يحصل، وبقي الخصمان التاريخيان جنباً إلى جنب.

لا يعني ذلك أنّ "القوات" و"التيار" باتا عملياً في خندقٍ واحدٍ، ولعلّ كلاً منهما ينتظر الآخر للخروج أولاً، علماً أنّ ثمّة من يفسّر "تقاطع المصالح" بينهما، بـ "تقاطعٍ" من نوعٍ آخر، بين الداخل والخارج، على رفض تسمية الحريري، "تقاطع" تشير كلّ المعطيات إلى أنّه ينتهي هنا، بعيداً عن أيّ أوهام بإحياء "تفاهم معراب" أو غيره!