قد يكون الكاتب الأميركي نيقولا نيغروبونت رائداً في التعبير عن لعبة ثورات هذا القرن في كتابه بعنوان "الإنسان الرقمي" الذي أهداه لزوجته بالجملة التالية:

" إلى إيلان،

التي تحمّلت زوجها الرقمي منذ 11111 سنة". ليتساءل بعدها ما هي ثورة القرن فيجيب إنّه بذرة الرياضيات الحديثة التي تتحكّم بتغيير وجه الثقافة والأنظمة في الدنيا. إنّه البايت Bits الذي لا لون ولا حجم ولا وزن له. إنّه الإنسان الفريد الوحيد الذي يمكنه نقلك نحو ​العالم​ وحيداً بسرعة ​الضوء​. إنّه العنصر الدقيق الذي يؤلّف ذرّة تكنولوجيا الإعلام...يمكنه أن يكون صفراً أو واحداً... شغل العنصر الأساسي في حسابات الأرقام التقليدية وغزا الفلسفة، لكنّه إنفجر مع الرياضيات الحديثة ليكتسب قدرات هائلة تتجاوز الأرقام وتسمح بترقيم إنفجارات الإعلام المتنوع والمختلف المرئي والمسموع وإمكانية إختصارها في سلاسل معقدة في جذبك والتأثير. نحن أمام أجيالٍ من الحقائق المتلاحقة التي تجعلك تصنع ​الخيال​ البشري في سلسلة المخترعات السهلة المتلاحقة وتعرضها أمامك للإستعمال فتملك العالم بأصابعك وعينيك بما يتحدّى الخيال ليحرّك وجودك نحوها وقد يشلّ قدرتك على التردّد بشأنها أو إهمالها.

صحيح أنّ المخترعات العملاقة تمسح جاذبية الماضي وكأنها اللحظة التي مضت. تستطيع أن ترمي تاريخاً وتراثاً هائلاً في سلّة من المهملات بحجم الظفرأمامك على ​الشاشة​ لتفرغها نهئياً بنقرة تمحو التاريخ والماضي بكلّ عظمته واحمه وقشوره. لكنها ظاهرة تترك مساحات إنسانية شاهقة وندوباً من العزلة المرضية وتشقّقات تسلخ الإجتماعية والمفاهيم التي كنّا نتصورها ثابتة، مثل الهوية والقرابة الدموية والجوار والقيم والمعابد والعلاقات البشرية والتراث وحتّى التاريخ البشري يصبح مثل فأرةٍ ميتة ترميها في السلّة الضوئيّة، لمصلحة الأرباح والخسائر في خدمة الأعمال والأسواق والإعلانات و​المال​. بالمقابل، نرى حتّى هذه المفاهيم وأشكالها المتحقّقة، تكتسب حللاً ووسائط ​حافلة​ بأشكال جديدة تبيع الحريّة الفاقدة لمعانيها إذ يخرج الإنسان البائس من الأمكنة والأوطان والحدود الضيقة مثل ​لبنان​ وبلاد العرب والمسلمين اليوم أو غيرها إلى اللامكان غير المحدود حيث اللحاق المحكوم

ب​الإنترنت​ والمحصور بالبصمات ودمغات وسائل التواصل الإجتماعي والضيق من الوحدة والخوف في التعبير والتغيير.

إنّها مظاهر مؤلمة تجعل الرجال والنساء والأبناء يتشاركون المكان الواحد لكن كلّ منهم مقيم في دنياه، والأحفاد حيال الشاشات الصغيرة عصابيين يلعبون، بما ينسف العلاقات الطبيعية ويرذل العواطف ويحوّل الإستقرار إلى مضامين مبهمة. تتشبّث بنا الحاجات التي تفرضها مستلزمات عصر ​الفضاء​ والعولمة التي تجعل الفروقات الشاسعة بين شعوب الأرض وثقافاتها أكثر ضموراً بالمعنى الإنساني وأكثر دفقاً بالمعنى التجاري.

لنأخذ مثلاً،التعريف البسيط لظاهرة تسابق الأبراج، التي تشغل الضلع الثالث في مثلّث الرسم والنحت، نرى الواقع السكني يدفع بالتعريف إلى ما يتجاوز الخيال المادي المحكوم بالتحولات الدائمة عبر الأزرار المذهلة المتلاحقة. قد لا نعثر على فروقاتٍ كبرى بين البشر في عصر الفضاء سوى بروز حاجة التجوّل الفضائي للناس في أرجاء العالم مفتونة بالجديد، وهذا ما ولّد خلطاً وفجوات هائلة بين ما نسمّيه الشعوب المتقدّمة والمتخلّفة. تبدو الإنشقاقات حاصلة وهائلة بين النواة والقشرة الخارجيّة التي لم تسقط بصفتها مصطلحات قديمة منحت حيّويتها وجاذبيتها لمصطلحات غريبة مستوردة أفرزتها مصطلحات أخرى خرجت من رحم ما بعد الحداثة post modernity التي هلّل بها الفكر الأميركي المعاصر لكنها بقيت من دون أساس ثابت .

لماذا؟

لأنّ العبقرية الأميركية لم تتمكّن بعد من تسميتها مولوداً فكري جديداً خارج رحم الحداثة التي لم يخرج منها تماماً.

هناك ظواهر ومظاهر معمّمة في الأرض وعلى الشاشات ، برّاقة بكلّ المعاني والأبعاد وهي غير مكلفة بأثمانها وقد تعرّت أو قطعت جذور علاقاتها مع ملامح الماضي. قد تبدو هذه الملامح صادمة ملآنة ولكنها قد تجعلك تشعر أحياناً وكأنّك مقيم في الفراغ تدور رخواً في عصر الفضاء وتحتك بكرةٍ أرضية لا تعنيك حتّى وأنت مقيم فوق المقابس التي تلهيك متلذّذاً بالسفر والغوص في لذّة التقلّب في هذا الفراغ.

من ينتج ويسيطر اليوم، ندرة متواضعة من البشر مسكونة بالأحلام والخيال والحفر في المجهول بهدف الخلق والإبداع. لا قيمة للجنس أو اللون أو الطائفة أو المذهب هناك. القيمة للأفكار اللامعة الطازجة الباهرة.

بهذا المعنى أستعيد تساؤل الشاعر الفرنسي شارل بودلير عندما كتب:

" هكذا يتحرّك، يركض، يبحث. عمّ يبحث هذا الإنسان الوحيد المزوّد بمخيلة نشطة؟ يبحث عن الخلق" وقد أيّده الشاعر الفرنسي رينيه شار إذ كتب ما معناه أنّ العالم هو بين أيدي أجيال الكشف عن عوالم لا تنتهي بحاجة دائمة إلى الكشف.