لم يصمد "تعاون" رئيس حكومة تصريف الأعمال ​سعد الحريري​، المفترض نظرياً على الأقلّ، مع "خليفته" رئيس الحكومة المكلّف حسّان دياب أكثر من أيامٍ معدودة.

فبعدما "بارك" الحريري للبنانيين تسمية رئيس حكومةٍ جديد، تكريساً لمعادلة "ليس أنا بل أحد آخر"، وبعدما أكمل قسطه للعلى بإبداء "الانفتاح" على دياب واستقباله في دارته، وبعدما تنصّل من تحرّكات الشارع السنّي المنتفض ضدّ الأخير، خرج بمعادلةٍ جديدةٍ تناقض كلّ المسار السابق، وتقوم على مبدأ "لا غطاء ولا ثقة إذا لزم الأمر".

وإذا كانت هذه الوقائع تدلّ على عدم "رضا" الحريري على المتغيّرات الحاصلة على الأرض، بعدما كان "يراهن" ربما، كما يعتقد كثيرون، على إسقاط دياب عبر الشارع، كما أسقِط أسلافه، فإنّ ثمّة من يرى أنّ الحريري "نادم" على كلّ المسار الذي ذهبت إليه الأمور منذ استقالته على وقع الاحتجاجات الشعبيّة.

ولعلّ شعور الحريري بـ"الضعف" كافٍ للدلالة على ذلك، بعدما بات يفتقد "الحصانة" التي لطالما كانت مؤمّنة لها، بغياب أيّ "حلفاء" حقيقيّين، في الداخل والخارج، ما يفتح الباب أمام سؤال كبير ولكن مشروع: هل وقع الحريري في "الفخّ" الذي نصبه لغيره؟ وأيّ خياراتٍ متوافرة له اليوم؟!.

أين الحلفاء؟!

لعلّ السؤال الأكبر الذي يطرحه أيّ مراقبٍ لوضع رئيس الحكومة المستقيلة اليوم هو، أين حلفاء الرجل؟ ولماذا يبدو كمن يغرّد وحيداً من دون أيّ سندٍ يؤازره؟.

قد يكون الحريري هو من فرّط بتحالفه مع "العهد"، ومن خلفه "​التيار الوطني الحر​"، من خلال ما يعتبره الأخير "انقلاباً" على ​التسوية الرئاسية​ التي حكمت البلاد على امتداد الأعوام الثلاثة الماضية، يوم ارتأى إعلان استقالة حكومته بشكلٍ فرديّ، معتقداً أنّه بذلك يستطيع ركوب موجة الشارع الثائر والمنتفض على الطبقة السياسية برمّتها، والتي يشكّل الحريري، شاء أم أبى، جزءاً أساسياً منها.

من خلال هذه الخطوة، بدأ "الافتراق" بين الحريري من جهة والوزير ​جبران باسيل​، ومن خلفه رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ من جهةٍ ثانية، افتراق تعزّز أكثر مع الشروط التي بدأ الحريري بوضعها على طاولة التفاوض حول إمكان عودته لمنصبه، وعلى رأسها إقصاء باسيل، باعتبار أنّه لن يستطيع تحمّل تبعات عودة وزير الخارجية، الذي كان من أكثر المُستهدَفين في حركة الشارع، في وقتٍ كان الأخير يحرص على ربط مصيره بمصير الحريري نفسه، ما من شأنه التقليل من وطأة الخسارة، التي كانت ستُصوَّر على أنّها "هزيمة" في الأوساط السياسية.

وانطلاقاً ممّا سبق، يمكن القول إنّ الحريري كان بشكلٍ أو بآخر "مهندس" الافتراق مع باسيل، معتقداً أنّه بذلك قادرٌ على رفع أسهمه في الشارع، الذي سيرى فيه خير من يعبّر عن تطلّعاته، إلا أنّ ذلك لم يتحقّق، بل إنّ ما زاد الطين بلّة تمثّل في موقف "​القوات اللبنانية​" الذي شكّل "صفعة" للحريري من حيث لم يتوقّع. ففيما كان الرجل يتحضّر للعودة إلى السراي، رغماً عن باسيل، وبـ"مباركة" حلفائه، وخصوصاً الثنائيّ الشيعيّ، صُدِم برفض "القوّات" تسميته، ما لم يهدّد بسحب "الميثاقيّة" منه، لغياب التصويت المسيحي الوازن له فحسب، بل أفقده أيضاً الأغلبية المُطلَقة، مع خسارته خمسة عشر صوتاً اعتقد أنّهم "في الجيب"، وهو ما دفعه لطلب تأجيل الاستشارات ومن ثمّ العزوف عن خوض السباق، لعدم تسجيل "سابقة" على نفسه بعدد الأصوات.

إلى المعارضة دُر!

منذ اليوم الأول لاستقالة الحريري، كانَ واضحاً أنّ الرجل لم يكن يريد الانسحاب فعلاً من السباق، ولا "الاعتكاف" كما حاول كثيرون الإيحاء، أو حتى "الاعتزال" أقلّه بانتظار زوال "الضبابيّة" المسيطرة على المشهد، وحتى لا يسجّل التاريخ عليه أنّه كان رئيس حكومة "الانهيار"، إن جاز التعبير.

صحيحٌ أنّ الرجل رفع شعار "ليس أنا بل أحدٌ آخر"، بعدما اصطدم شرطه بتشكيل حكومة "تكنوقراط" بـ"فيتوات" بالجملة من "الوطني الحر" الذي ربط مصير الحريري بمصير رئيسه، ومن ​الثنائي الشيعي​ الذي أصرّ على صيغة حكومة "تكنو-سياسية" بذريعة رفض الانصياع للإملاءات الغربيّة، وما وُصِفت بمساعي عزل "​حزب الله​"، إلا أنّ كلّ ما كان يحصل على الأرض أثبت العكس بالمُطلَق.

وتندرج في هذا السياق جهود الرجل، مباشرةً أو مواربةً، لـ"إحراق" كلّ الأسماء البديلة التي كان يقترحها بنفسه لـ"خلافته"، بدءاً من الوزير السابق ​بهيج طبارة​، إلى الوزير السابق ​محمد الصفدي​، الذي حمل بعنف على الحريري، مروراً برجل الأعمال ​سمير الخطيب​، الذي أحرِج من دار الفتوى، فأخرِج من السباق لصالح الحريري. وإذا كان سيناريو "الإحراج فالإخراج" طاول الحريري نفسه لاحقاً، فإنّ الاعتقاد السائد لدى كثيرين بأنّ "رهان" الرجل لم يتزحزح على أنّ الخيار سيعود ليرسو عليه في النهاية، باعتبار أنّه "خشبة الخلاص"، وأنّ أيّ اسمٍ بديلٍ سيلقى مصير كلّ من سبقوه.

بيد أنّ هذا السيناريو لم يتحقّق مع تسمية الوزير السابق ​حسان دياب​ الذي تعامل معه الحريري بـ"حذر" منذ اليوم الأول، حيث أبدى "إيجابيّة" لاعتقاده أنّ الرجل سيعتذر، إما تحت وطأة رفض الشارع له، الأمر الذي لم يحصل كما كان يتمنى، أو لغياب "التفويض السنّي" له، إلا أنّ دياب تسلّح بـ"دستورية" تكليفه، بعيداً عن جدل "الميثاقيّة" الذي لا يغني ولا يسمن من جوع. هنا، بدأ الحديث عن "ازدواجية" يتعاطى بها الحريري مع الموضوع، فهو يُظهر تعاوناً من جهة، ويشجّع من جهة ثانية "انتفاضة" شارعه ضدّ دياب، مكتفياً بالدعوة إلى الحفاظ على "سلميّتها" متى خرجت الأمور عن حدّها، قبل أن "يستسلم" للأمر الواقع أخيراً، بتصريحاتٍ بدا واضحاً من خلالها اتجاهه للتصعيد، وعدم التطبيع مع الواقع القائم، وصولاً إلى حدّ التموضع في المعارضة، في مؤشّرٍ لم يبدُ "محبَّذاً" بالنسبة لخصومه.

عودة لنقطة الصفر...

يقول خصوم الحريري، من شركائه في الحكومة المستقيلة، إنّ مشكلة الرجل ليست معهم، بل مع "القوّات اللبنانيّة" التي كانت وراء انسحابه من السباق إلى السراي، مذكّرين بأنّ الثنائيّ الشيعيّ بقي متمسّكاً به حتى اللحظة الأخيرة، وأنّ "التيار الوطني الحر" نفسه كان مصراً على أن يسمّي الحريري مرشحاً بديلاً، وهو ما لم يفعله.

عند هذه اللحظة المفصليّة، خسر الحريري حلفه مع "التيار الوطني الحر"، ويكاد يخسر "تطبيعه" مع الثنائي الشيعي، على رغم العلاقة "الموزونة" مع رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، ولكنّه لم يستطع في المقابل، إعادة إحياء تحالف الرابع عشر من آذار، فطعنة "القوات" أكبر من أن تُبلَع، والقطيعة مع "الكتائب" لا تبدو قابلة للكسر، والعلاقة مع "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ليست في أفضل أحوالها.

وكأنّ كلّ ما سبق لا يكفي، ثمّة من يصرّ على الحديث عن "مؤشرات" خارجية خلف رسالة "القوّات" وصلت إلى الحريري، ومفادها أنّ الغطاء الخارجي "منزوع" عنه في هذه الفترة، لتكرّ هنا سبحة التساؤلات، هل يستسلم الحريري للأمر الواقع، وينتقل إلى المعارضة بسلاسة، أم أنّ التصعيد الذي أطلقنواته ليلة الميلاد، سيُسقِط أيّ احتمالٍ لقيام أيّ حكومة لا يرأسها، ما يعيد الأمور إلى نقطة الصفر، التي لم تغادرها أصلاً؟!.