تعيش القوى السياسيّة والحزبيّة ال​لبنان​يّة فترة دقيقة جدًا، منذ التغييرات التي حصلت في لبنان إعتبارًا من 17 تشرين الأوّل الماضي، لا سيّما لجهة التغييرالجذري في مزاج شرائح شعبيّة واسعة إزاء هذه القُوى، مُرورًا بإستقالة الحُكومة التي كانت مُوزّعة على ثمانية أحزاب من الدرجتين الأولى والثانية، وُصولاً إلى مساعي تشكيل حكومة جديدة خالية من الوجوه السياسيّة المَعروفة. فما هو واقع هذه الأحزاب والتيّارات اليوم، وما هي علاقاتها بعضها ببعض؟.

لا شكّ أّنّ مُختلف القوى الحزبيّة والسياسيّة في لبنان ليست في أفضل أحوالها في هذه المرحلة، بفعل نقمة شعبيّة عارمة على كل الطبقة السياسيّة، نتيجة ما آلت إليه الأوضاع الإقتصاديّة والماليّة وخُصوصًا المَعيشيّة والحياتيّة. وعلى الرغم من أنّ آراء الناس مُتضاربة بشأن الجهات التي تتحمّل مسؤولية الواقع المُتدهور الذي وصلنا إليه، وكذلك بشأن نسبة تورّط كل جهة منها، فإنّ الخيبة كبيرة وجامعة من أغلبيّة القوى السياسيّة–ما لم يكن منها كلّها، والإستثناءات محدودة وهي محصورة بالفئات المُستفيدة مُباشرة من هذه القوى، وببعض المُناصرين المُتعصّبين بشكل أعمى وغير قابل للنقاش. وهذا الأمر يُفسّر الغياب المُستمرّ لكثير من المسؤولين الحزبيّين عن الظُهور الإعلامي، إلا في ما نَدر، ولتوجيه رسائل مُحدّدة.

وبعد إستقالة الحُكومة الحاليّة، وفي ظلّ حديث مُتصاعد عن حُكومة إختصاصيّين ستُبصر النور قريبًا، لا شكّ أنّ قُدرة الخدمات التي كان يؤدّيها الوزراء الحزبيّون ستتلاشى بشكل كبير، حتى لو جرى تعيين وزراء إختصاصيّين من جانب بعض القوى الحزبيّة. وخدمات النوّاب إلى تراجع أيضًا، بسبب إنعدام القُدرة على التوظيف، إن في ​القطاع العام​ الموضوع بحالة تجميد لمدّة ثلاث سنوات، أو في القطاع الخاص الذي يُعاني من حال رُكود غير مَسبوقة. كما أنّ تحرّكات المُنتفضين في الشارع، ومُواكبتها عن قُرب من قبل وسائل الإعلام، فتح العُيون على مُمارسات رجال السُلطة، بشكل جعل مسألة تمرير أيّ صفقات أو أيّ تنفيعات أصعب من السابق بكثير.

وبحسب المَعلومات المُتوفّرة، فإنّ أكثر من حزب سياسي لبناني بدأ أخيرًا عمليّات مُراجعة نقديّة وذاتيّة لأدائه، بالتزامن مع إطلاق نقاشات داخليّة بشأن سُبل إستعادة ثقة المُناصرين وعدم خسارة تأييد المزيد منهم، وسُبل إستمالة المزيد من المُؤيّدين في المُستقبل، حيث أنّ الإنتخابات النيابيّة التي يُفترض أن تُنظّم في العام 2022، ستكون مفصليّة بالنسبة إلى الكثير من القوى السياسيّة، في حال نجح "​الحراك الشعبي​" بتنظيم صُفوفه.

وبالنسبة إلى علاقات القوى الحزبيّة في ما بينها، فهي ليست في أفضل أحوالها أيضًا. ولعلّ "تيّار المُستقبل" هو من أشدّ القوى التي تضرّرت، بفعل الخروج من السُلطة، بالتزامن مع سُقوط "التسوية الرئاسيّة" التي بناها "المُستقبل" مع "التيّار الوطني الحُرّ" وتدهور العلاقة في ما بينهما، وكذلك مع توتّرعلاقة "التيّار الأزرق" مع حزب "​القوّات اللبنانيّة​"، ومع تراجع علاقته مع "الحزب التقدّمي الإشتراكي". وتُعاني "القوات" من نوع من العزلة السياسيّة الداخليّة، لكنّها غير نادمة على المواقف التي إتخذتها، وتعتبرها مُنسجمة مع شعارات "القوات" ومع مبادئها. ووضع "الإشتراكي" ليس أفضل حالاً، نتيجة سُقوط دوره كبيضة قبّان منذ فترة، والتعامل معه بتجاهل من قبل مُختلف القوى السياسيّة. ولعلّ هذا الواقع هو سبب ما بدأ يتردّد عن مُحاولات بعيدة عن الإعلام، لإعادة تنقية علاقة كلّ من "المُستقبل" و"القوات" و"الإشتراكي" بعضها ببعض، لإستعادة القُوّة التأثيريّة التي كانت تتمتّع بها هذه القوى على الساحة اللبنانيّة، يوم كانت مُوحّدة.

وبالإنتقال إلى "​الثنائي الشيعي​"، فإنّ تحالفه لا يزال مُستمرًّا ومتينًا، على الرغم من سيطرة "حزب الله" الشعبيّة على الأرض، وذلك بسبب حاجته إلى صلة التواصل التي يُوفّرها رئيس مجلس النواب ​نبيه برّي​ مع الكثير من القوى الداخليّة، وخُصوصًا مع الدول العربيّة والغربيّة. ويُواجه "الحزب" ضُغوطًا إقتصاديّة مُتصاعدة، بسبب الحصار الخارجي المفروض على إيران، الأمر الذي زاد من حراجة موقفه إزاء مُناصريه ومؤيّديه في ظلّ الأوضاع الحياتيّة الضاغطة، لكنّ ثبات الجميع في الموقف الإستراتيجي العام لا يزال يُؤمّن له التأييد ضُمن البيئة الحاضنة. وليس بسرّ أنّ آراء "حزب الله" تباينت في المرحلة الأخيرة مع آراء "الوطني الحُرّ" بالنسبة إلى ضرورة التمسّك برئيس "تيّار المُستقبل" ​سعد الحريري​ رئيسًا للحُكومة، حيث أنّ الأوّل كان يضغط بهذا الإتجاه من مُنطلقات إستراتيجيّة بعيدة المدى، خاصة وأنّ الحريري قدّم الكثير من التنازلات لخط المُقاومة خلال فترة حكمه، بينما كان الثاني مُعارضًا لهذا الأمر ويضغط لتغيير الحريري إنطلاقًا من إعتبارات داخليّة. وإذا وضعنا الوضع المالي الضاغط على الجميع، والذي يُنذر بكوارث لا تستثني أيّ طرف في حال تدهور الوضع أكثر، المُشكلة السياسيّة الأكبر التي سيُواجهها "حزب الله" في المُستقبل المتوسّط، تتمثّل في المُفاضلة بين رئيسي "الوطني الحرّ" ​جبران باسيل​ و"المردة" سليمان فرنجيّة، لمنصب رئاسة الجمهوريّة. والمُفارقة أنّ "المردة" الذي يتقيّد بتعليمات "الحزب"، إنطلاقًا من التموضع الإستراتيجي الجامع معه، يحرص على التمسّك بعلاقته مع "المُستقبل" وبتفضيلها على عودة أيّ علاقة مع "الوطني الحُرّ"، من مُنطلق معركة الرئاسة المُقبلة، إضافة إلى أسباب مُرتبطة بالتموضع الداخلي العام لتيّار "المردة". أمّا "الوطني الحُرّ" فهو يجهد لمُحاولة إنقاذ العهد الرئاسي المَحسوب عليه في نهاية المطاف، على الرغم من مُرور أكثر من نصف الولاية حتى اليوم، وفي ظلّ أوضاع صعبة ضاغطة على الجميع، لكنّ علاقاته باتت محصورة إستراتيجيًا بحزب الله وتكتيًا ب​حركة أمل​، ومع قُوى أخرى مَحدودة التأثير.

في الختام، لا شكّ أنّ من شأن تركيبة الحُكومة المُقبلة أن تُحدّد الإتجاه الذي ستسلكه الأمور على مُختلف المُستويات، حيث أنّ عدم إنطلاق ورشة الإنقاذ سيُؤدّي إلى تفاقم النقمة الشعبيّة على مُختلف القوى من دون إستثناء، بينما من شأن تحسّن الأمور أن يُجمّد حال التراجع الذي تشهده القوى الحزبيّة شعبيًا.