قد يكون "الانقلاب" العنوان الأبرز الذي يمكن وضعه في أيّ جردةٍ لنهاية العام، في ضوء التغيّرات الدراماتيكيّة التي شهدتها البلاد منذ السابع عشر من تشرين الأول الماضي، يوم قرّر ​اللبنانيون​ بمختلف انتماءاتهم، "الانقلاب" على الطبقة السياسيّة برمّتها، والمطالبة بحقوقٍ بديهيّة لمواطني أيّ دولةٍ تحترم الإنسان.

سرعان ما انعكس هذا "الانقلاب" على الواقع السياسيّ، فانتهى بحكم الأمر الواقع، العمل بكلّ التفاهمات والتسويات التي تحكّمت بالبلاد والعباد على امتداد الأعوام الماضية، وعلى رأسها "​التسوية الرئاسية​" المُبرَمة بين "​تيار المستقبل​" و"​التيار الوطني الحر​"، وما تشعّب عنها من اتفاقاتٍ شملت معظم الأطياف، وترجمت بحكومة "إلى العمل".

ولأنّ "الحراك الشعبيّ" لم يفرز، أقلّه حتى الآن، "بدائل" على أرض الواقع، اعتقد كثيرون أنّ ما حصل من "انقلاب" سيؤسّس للعودة إلى "الجذور"، وتحديداً إلى الاصطفاف السياسي الذي كان قائماً في العام 2005، توجّهٌ عزّزته المواقف السياسية التي أوحت بأنّ قوى "​8 آذار​" عادت، وأنّ قوى "​14 آذار​" ترتّب بدورها أمور العودة.

لكن، هل يمكن "استشراف" مثل هذه العودة فعلياً؟ هل تكون حكومة ​حسان دياب​ "شرارة" هذه العودة، خصوصاً أنّ كثيرين أطلقوا سلفاً عليها وصف "حكومة اللون الواحد"، وفي "اللون الواحد" إشارة واضحة إلى "8 آذار"؟ وهل تشكّل معارضة هذه الحكومة فرصة "ذهبية" للمّ شمل "14 آذار" بعد سنوات من الأخذ والردّ بين مكوّناتها؟!.

يضرّ ولا يفيد؟!

في الفترة الأخيرة، بدا لكثيرين أنّ قوى الثامن من آذار في أفضل حالاتها، بل إنّها عادت إلى عزّها وأوجها، وأنّ أول تجليات ذلك ظهر بوضوح من خلال تسمية حسّان دياب رئيساً مكلّفاً ​تشكيل الحكومة​، من جانب جميع أطيافها، وبخلاف إرادة الأفرقاء الآخرين.

ولعلّ ما عزّز "المنطق" المفضي إلى هذا الاستنتاج تمثّل في غياب "الحدّة" التي طبعت العلاقة بين أطراف هذا التحالف في الماضي، لدرجة أنّ "الانسجام" بين رئيسي ​الجمهورية​ ​ميشال عون​ و​مجلس النواب​ ​نبيه بري​، والذي لفت الأنظار مثلاً خلال عرض ​عيد الاستقلال​، بالمقارنة مع رئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ ​سعد الحريري​ يومها، تحوّل بسحر ساحرٍ إلى "نموذجٍ" يُقتدى.

أكثر من ذلك، ثمّة من تحدّث عن "هدنةٍ" حتى على خطّ العلاقة بين عون، ومن خلفه الوزير ​جبران باسيل​، وتيار "المردة" ورئيسه ​سليمان فرنجية​، الذي أثار الانتباه خلال ​الأزمة​ الأخيرة بما وصفته بعض الأوساط بـ "الحياد الإيجابيّ"، إذ لم يختر "ركوب الموجة" كما فعل غيره، بعدما تحوّلت ​الاحتجاجات​ في مكانٍ ما إلى التصويب حصراً على باسيل، الخصم الأول لفرنجية، الذي ذهب بدلاً من ذلك لتبنّي موقف "​حزب الله​"، واعتباره "البوصلة بالاتجاه الوطني الصحيح".

إلا أنّ كلّ هذه المؤشّرات لا تبدو كافية للحديث عن عودة "8 آذار" لأكثر من سبب، أولها أنّ كلّ ما سبق لا ينفي استمرار التباينات بين أطراف هذا الفريق، والتي عادت إلى منحاها الطبيعيّ على وقع مفاوضات ​تأليف الحكومة​، سواء بشكلٍ مباشر، كما ظهر من تغريدة فرنجية الأخيرة التي حذّر فيها من "طبخة الحكومة"، غامزاً من قناة ارتباطها بباسيل، أو بشكلٍ غير مباشر، في إشارة إلى ما يُحكى عن اختلافاتٍ حتى بين الثنائيّ الشيعيّ وباسيل حول شكل الحكومة، وطبيعة وزرائها.

بيد أنّ العائق الثاني، والذي قد يكون أهمّ، أمام إعادة إحياء "8 آذار"، يكمن في القناعة الراسخة لدى بعض أطرافها، بأنّ هذا الحلف يضرّ في هذه المرحلة ولا يفيد، أولاً حتى لا يُقال إنّ الحكومة العتيدة، إن أبصرت النور، هي فعلاً حكومة "لونٍ واحد" كما يصرّ البعض على تصويرها، وثانياً لوجود مرشحيْن رئاسيَّيْن واضحيْن بالحدّ الأدنى في صفوفه، هما باسيل وفرنجية، يطمح كلّ منهما لتوسيع شبكة علاقاته وصداقاته إلى الحدّ الأقصى.

بكاء على الأطلال!

إذا كان الانسجام متوافراً بين مكوّنات الثامن من آذار، بشكلٍ أو بآخر، بغياب الإرادة الفعليّة بإحياء الحلف، فإنّ الواقع يبدو مناقضاً لدى ما كان يُعرَف بقوى الرابع عشر من آذار، التي لا يخفي الكثير من أطرافها الرغبة باستعادة أمجاد الماضي، إلا أنّ أحداً لا يبدو جاهزاً للمبادرة، بعدما كثرت "الطعنات" داخل الفريق الواحد، والتي جعلت مجرّد اللقاء بين أطرافه "إنجازاً".

وإذا كان أكثر من فريقٍ، في الداخل والخارج، أثاروا خلال الأعوام الماضية، فكرة إعادة إحياء تحالف "14 آذار"، لمواجهة تصاعد نفوذ "حزب الله" وحلفائه، فإنّ المفارقة أنّ الأحداث الأخيرة وسّعت الهوّة بين أطراف هذا الفريق بدل تضييقها، على رغم تموضع معظم هؤلاء في المعارضة. ولعلّ الطعنة الأخيرة التي تعرّض لها رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري من حلفائه السابقين كافية، خصوصاً أنّ الأخير، وإن كان يحاول حصر هجومه على "الوطني الحر"، يدرك أنّ مشكلته الأساسية هي مع "​القوات​"، التي "أطاحت" به من سباق ​رئاسة الحكومة​، على رغم إدراكها أنّ حجب أصواتها عنه سيُفقِده "الميثاقية" المسيحيّة.

وفي وقتٍ يعتبر كثيرون هذه "الطعنة" مجرّد حلقة من مسلسلٍ طويلٍ من "الطعنات" التي حفلت بها الأعوام الماضية، فإنّ "البكاء على الأطلال" يبدو أقصى الآمال المُتاحة، باعتبار أنّ العلاقة بين "المستقبل" و"القوات" غير القابلة للترميم، أقلّه في الوقت الحاليّ، ليست حالةً فريدةً، فالعلاقة بين "القوات" و"​الكتائب​" ليست أفضل، بعد حملات "التخوين" المتبادلة التي دخل على خطّها الطرفان، كما أنّ العلاقة بين "الكتائب" و"المستقبل" لا تبدو موجودة أصلاً، وإن تخطى الجانبان مرحلة "القطيعة" التي وصلت بالحريري إلى حدّ الخروج من قاعة مجلس النواب عند أيّ مداخلةٍ للنائب ​سامي الجميل​، كما تفعل مثلاً الوفود اللبنانية في ​الأمم المتحدة​ عند حديث الوفود الإسرائيلية.

وأبعد من هذا وذاك، يبدو "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" أبعد ما يكون عن الرغبة بإحياء فريقٍ كان أول الخارجين منه، وإن كان رئيسه ​وليد جنبلاط​ يصوّر نفسه وكأنّه "قائد" المعارضة، علماً أنّ العلاقة بينه وبين أطياف "14 آذار" بمجملها شبه غائبة، بما فيها تيار "المستقبل"، الذي لم يتوقّف جنبلاط عن انتقاده في الآونة الأخيرة، وحتى بعد ​الاستشارات النيابية​، على خلفية عدم التصويت للسفير ​نواف سلام​ لرئاسة الحكومة. ولعلّ ما يزيد من "الهوّة" ما يُحكى، ويبدو قابلاً بشدّة للتصديق بالنظر إلى التجارب السابقة، عن أنّ جنبلاط لا يمانع المشاركة غير المباشرة في الحكومة، ولو عبر "التصديق" على أيّ اسمٍ درزيّ يمكن أن يدخلها، في حال أبصرت النور.

لا عودة للوراء

في النتيجة، ثمّة شيءٌ واحدٌ أكيدٌ، وسط كلّ المعمعة التي تشهدها البلاد، وهو أنّ ما قبل السابع عشر من تشرين ليس كما بعده.

وإذا كانت هذه المعادلة تنطبق على تفاهمات وتسويات السنوات الأخيرة، فإنّها تسري بالضرورة أكثر على الاصطفافات السابقة لها، والتي كلّفت البلد ما كلّفته، وأوصلته إلى المجهول الذي يرزح تحته اليوم.

بالتالي، لا "8 آذار" عادت، ولا "14 آذار" ستعود، ولا "​الثورة​" قامت لإحياء مثل هذين الفريقين، اللذين لا يكرّسان سوى فكر "المحاصصة" الذي يريد اللبنانيون أن يصبح من الماضي، قبل كلّ شيءٍ آخر...