يبدو أن الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ قرر الذهاب بعيداً في لعبة التصعيد بوجه الجمهورية الإسلامية في إيران، انطلاقاً من الساحة العراقية تحديداً التي تحولت إلى ما يشبه حلبة الملاكمة بين الجانبين، فبعد استهداف مواقع كتائب "حزب الله" العراقي في محافظة الأنبار، جاءت عملية اغتيال قائد لواء القدس في ​الحرس الثوري الإيراني​ ​قاسم سليماني​، بالإضافة إلى نائب رئيس "​الحشد الشعبي​" العراقي ​أبو مهدي المهندس​، الأمر الذي فتح الباب أمام جملة واسعة من الأسئلة حول الرد الإيراني ومداه، خصوصاً أنها تعتبر الرسالة الأقوى منذ تاريخ انتصار الثورة الإسلامية في طهران.

من حيث المبدأ، يندرج التصعيد الأميركي في سياق مسلسل الأحداث الذي كان قد بدأ بتشديد العقوبات الاقتصادية على طهران، الذي حمل عنوان دفع الأخيرة إلى اتفاق جديد بعد انسحاب واشنطن من ​الاتفاق النووي​ معها، فترامب منذ البداية حدّد الهدف بالحصول على اتفاق وفق شروط أفضل من تلك التي حصل عليها سلفه باراك أوباما، وبالتالي يجب أن يُقرأ المشهد العام ضمن هذا الإطار بشكل أساسي، بالرغم من أنّ البعض يرى اقتراب موعد المواجهة المباشرة بين الجانبين.

منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، حصلت الكثير من الأحداث التي أوحت بإمكانية الذهاب إلى الخيار الأخير، إلا أن الجانبين يفضلان، على الأقل حتى الآن، عدم الوصول إلى هذه المرحلة، خصوصاً أن التداعيات ستكون كبيرة عليهما، ما يرجح فرضية الاستمرار بالمعادلة السابقة مع بعض التعديلات عليها، التي تتعلق بشكل أساسي بمعادلة الردع العسكرية والأمنية، لا سيما بعد التطور الأخير في العراق.

في هذا السياق، قد يكون من المفيد العودة إلى المعادلات التي كانت تُرسم بين "حزب الله" والجانب الإسرائيلي، حيث كانت تل أبيب المُبادرة عادة إلى كسر قواعد الاشتباك، بينما يتولى الحزب إعادة رسمها من جديد وفق المصالح العليا التي يحددها، وهو ما حصل في الأشهر السابقة على مستوى سلاح الطائرات المسيّرة، بعد الهجوم الذي حصل بالقرب من مكتب العلاقات الإعلامية في الحزب في الضاحية الجنوبية، حيث لم يتأخر الرد الذي لم ينزلق إلى مواجهة شاملة أو مفتوحة بين الجانبين.

العودة إلى المشهد المذكورة مفيدة في رسم ما قد تذهب إليه الأحداث في الأيام المقبلة، ولو كان المشهد أكثر دقة وخطورة، خصوصاً بعد الرد الإيراني على عمليّات اغتيال سليماني بما يمثّله الرجل على المستويين الداخلي والإقليمي، حيث من المرجح أن تذهب طهران إلى ردّ مدروس بعناية، لا يقود إلى مواجهة شاملة ومفتوحة بين الجانبين، لكنه في الوقت نفسه يرسم معادلة ردع واضحة مع الجانب الأميركي، إلا إذا كان الأخير يريد الدفع إلى هذا السيناريو، الذي لا يحظى بالإجماع الداخلي في الولايات المتحدة أو داخل الإدارة الأميركية نفسها.

انطلاقاً من ذلك، تكون واشنطن هي المقرّر بالنسبة إلى حجم التداعيات المرتقبة على الردّ، الذي من المرجّح أن تكون الساحة العراقيّة مسرحه الأساسي، نظراً إلى أنها المبادر إلى التصعيد مؤخّرًا، إلا أن هذا لا يلغي أن إدارة ترامب ستكون في موقف حرج جداً، نظراً إلى أن الخيارات لديها لن تكون واسعة، في حين أن رفع مستوى المواجهة إلى هذا النطاق جاء نتيجة لفشل الضغوط الاقتصادية في تحقيق الهدف المطلوب منها، والتي كان آخرها موجة التظاهرات الشعبيّة، أي دفع طهران إلى طاولة المفاوضات بشروط جديدة أقرب إلى الاستسلام منها إلى المفاوضات.

في المحصلة، حجم الردّ الإيراني، الذي لن يتأخّر، سيكشف المدى الذي قد تذهب إليه الأحداث على مستوى منطقة الشرق الأوسط برمّتها، لكن الأكيد أنه يدرس بعناية فائقة لتحقيق الرسالة المطلوبة منه، التي تدفع واشنطن إلى إعادة النظر في حساباتها، لا سيّما أنّها على أبواب انتخابات رئاسيّة يريد ترامب الفوز فيها بولاية جديدة.