على وقع التطورات الإقليميّة المتسارعة بعد اغتيال قائد "​فيلق القدس​" في ​الحرس الثوري الإيراني​ ​قاسم سليماني​ ونائب رئيس هيئة "​الحشد الشعبي​" في العراق ​أبو مهدي المهندس​ في العاصمة العراقية بغداد، تستمرّ الجهود في لبنان ل​تشكيل الحكومة​ الجديدة، وسط "تباشير" بقرب الإعلان عنها، على رغم ظهور بعض العقد في الأفق، من هنا وهناك.

بيد أنّ المفارقة التي سُجّلت في عطلة نهاية الأسبوع، والتي رأى كثيرون أنّها تكمن خلف "التراجع التكتيكيّ" الذي حصل على خط التأليف، تكمن في "المراجعة النقدية" التي أقدم عليها البعض لفكرة حكومة "الاختصاصيّين" بحدّ ذاتها، باعتبار أنّ "زلزال" اغتيال سليماني يتطلب مقاربة مختلفة بالحدّ الأدنى، للتصدّي لما يمكن أن يظهر من تحدّيات جديدة في القادم من الأيام.

وفي هذا السياق، طُرِحت علامات استفهام بالجملة عمّا إذا كانت تطورات الإقليم قد "أطاحت" عملياً بفكرة حكومة "الاختصاصيّين المستقلّين"، لصالح حكومةٍ سياسيّةٍ مطعَّمةٍ بالاختصاصيّين مثلاً، قد تكون أنجع في هذه المرحلة،وسط حديثٍ عن "فرملةٍ" تعرّضت لها عجلات التأليف، وهو ما نفاه المعنيّون، مؤكدين أنّ "الدخان الأبيض" بات قريباً...

أين العقدة؟

على امتداد الأسبوع الماضي، كانت التسريبات الصحافية تتحدّث عن ولادةٍ وشيكةٍ للحكومة، حُدِّدت لها الكثير من المواعيد، من اليوم الأخير من العام المنصرم، إلى الخميس فالسبت، من دون أن ترسو على أحدها في نهاية المطاف، لأسبابٍ واعتباراتٍ كثرت التكهّنات حولها، بين عُقَدٍ مرتبطة ببعض الأسماء والحقائب، وبين تطورات الإقليم وانعكاساتها على أكثر من مستوى.

لكن، إذا كان اغتيال سليماني والمهندس ورفاقهما غيّر المعادلات الداخليّة، وحوّل الأنظار عن الحكومة بشكلٍ كبير، فإنّ المعنيّين بالتأليف يؤكّدون أنّ العُقَد التي حالت دون إبصار الحكومة النور في نهاية الأسبوع ليست مرتبطة به، باعتبار أنّ هناك اتفاقاً ضمنياً داخلياً على "تحييد" لبنان بصورةٍ أو بأخرى عن التداعيات، وهو ما تجلّى في غياب المواقف "الحادّة" ممّا حصل، الأمر الذي برز حتى في خطاب الأمين العام لـ"​حزب الله​" ​السيد حسن نصر الله​، الذي لم يضع لبنان ضمن "ساحات المواجهة"، أقلّه بشكلٍ علنيّ.

وإذا كان من تفسيرٍ لمثل هذا الاتفاق، إن وُجِد، فهو أنّ هناك إصراراً من "العرّابين المفترضين" للحكومة، وعلى رأسهم "حزب الله"، على ضرورة التعجيل بتشكيل الحكومة، قبل أن تعصف بها ربما تطوراتٌ أخرى مرتقبة في الإقليم، إصرارٌ يبدو أنّ رئيس الحكومة المُكلَّف حسّان دياب يسير بين الألغام على أساسه، وهو الذي يرفض إعادة النقاش اليوم بشكل الحكومة أو طبيعتها، باعتبار أنّ هذا الأمر محسومٌ، بل إنّه وافق على تكليفه بناءً عليه أصلاً.

وإزاء ذلك، يحرص المقرّبون من الرجل على القول إنّ العُقَد التي يتمّ تداولها في الإعلام "مضخَّمة"، وأنّ كلّ ما في الأمر أنّ هناك بعض الأسماء والحقائب التي لم تُحسَم بشكلٍ نهائيّ بعد، علماً أنّ دياب يسعى لتكون تشكيلته الوزاريّة متوازنة ومدروسة، وهو يولي بعض الحقائب "الحسّاسة" كالداخلية والخارجية عناية استثنائيّة لهذا الغرض، مع التشديد على أنّه من يؤلّف حكومته، بالتشاور مع رئيس الجمهورية، وليس أيّ أحدٍ آخر، كما تغمز الكثير من التحليلات الصحافية.

عُقَد "شكليّة"؟!

في الحديث عن العُقَد، يتحدّث البعض عن "فيتو" يضعه وزير الخارجية ​جبران باسيل​ مثلاً على بعض الأسماء، وعن إصرارٍ يبديه لتسمية جميع الوزراء المسيحيّين، أو معظمهم، فيما يذهب البعض الآخر للحديث عن "عقدة سُنية" يمثلها "اعتكاف" الشخصيات السنية الوازنة عن الدخول إلى حكومة يُقال إنّها فاقدة للميثاقية في الطائفة، وعن "عقدة درزية" أخرى فضحتها التغريدات "المتناقضة" لرئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​، والتي توحي تارةً بمفاوضاتٍ يجريها من خلف الكواليس رغم قراره المُعلَن بالمقاطعة، وطوراً بانكفاءٍ ورفضٍ لما يُعرَض عليه.

بيد أنّ كلّ هذه العُقَد تبقى "شكليّة" برأي كثيرين، ممّن يصرّون على أنّ ما أخّر ولادة الحكومة التي كان مقرّراً أن تبصر النور خلال عطلة نهاية الأسبوع، بدليل التداول بصيغٍ شبه نهائيّة لها عبر الإعلام، يكمن في التطوّرات الإقليميّة المتسارعة، والتي جعلت بعض من كانوا ينادون بحكومة "التكنوقراط" منذ انفجار الأزمة السياسيّة الداخليّة، على وقع التظاهرات الناقمة على الطبقة السياسيّة، لمراجعة موقفهم وأدبيّاتهم، على اعتبار أنّ العاصفة الآتية إلى المرحلة تتطلّب حضوراً سياسياً واضحاً في الحكومة التي لن يكون بمقدورها "النأي بنفسها" عمّا يحصل في المحيط، والذي قد يرتدّ عليها عاجلاً أم آجلاً.

بيد أنّ هذه المقاربة تبدو مرفوضة، حتى الآن، أقلّه من رئيس الحكومة المكلّف، الذي يشير الدائرون في فلكه إلى أنّ ما حصل يجب أن يعجّل في ​تأليف الحكومة​، لا أن يفرملها بذريعة البحث بصيغتها أو غيرها، ما من شأنه إعادة الأمور إلى المربع الأول، أو ما دونه، في حين أنّ "ترف" هدر الوقت لا يجب أن يكون خياراً مُتاحاً لأيّ طرفٍ في هذا التوقيت الحسّاس. أكثر من ذلك، ثمّة من بدأ يطرح علامات استفهام عمّا يمكن لحكومةٍ سياسيّةٍ، من النوع "الوطنيّ" الذي كان يشهده لبنان في السنوات السابقة، أن تفعله، في ظلّ الانقسام الذي كانت تجسّده أصلاً، والذي كان يمنعها من اتخاذ أيّ مواقف جدية أصلاً، تفادياً لعقوباتٍ مُعلَنة أو مضمرة.

من هنا، يعتبر البعض أنّ النقاش حول هذه النقطة اليوم لم يعد مجدياً، لأنّ الجميع يدركون، سواء من أحزاب السلطة أو المعارضة أو الحراك الشعبيّ، أنّ الأولوية المُطلقة التي يفترض أن تصبّ الحكومة العتيدة جلّ اهتمامها عليها، مرتبطة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي، خصوصاً أنّ الانهيار الذي يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أنّ البلاد باتت على شفيره، لن يرحم أحداً، وعدم الرحمة ستشمل هنا كلّ المعسكرات، ممّا يسمّى بالاعتدال والممانعة وما بينهما من وسطيّةٍ ورماديّةٍ وغير ذلك. وبالتالي، فإنّ أيّ تفكيرٍ بـ"تسييس" الحكومة، ولو كان لاعتباراتٍ مشروعةٍ ومُحِقّة، من شأنه أن يقلب السحر على الساحر، علماً أنّ المُتداوَل عن الحكومة حتى الآن، يؤكد وجود "صبغةٍ سياسيّةٍ" لها، قد تكون أكثر من كافية.

خلط أوراق؟!

على خطورتها وحساسيّتها، تشير كلّ المعطيات إلى أنّ التطورات الإقليمية المتسارعة لم تؤدّ، حتى الساعة على الأقلّ، إلى خلط أوراق الحكومة اللبنانيّة المزمع تشكيلها، ولا إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وتحديداً إلى ما قبل انطلاقة الحراك الشعبيّ.

أكثر من ذلك، توحي المعطيات بأنّ "تحييد" لبنان عن العاصفة الإقليميّة يبقى أساساً، ليس على أساس فكرة "الحياد" التي لا تبدو منطقيّة، في ضوء الصراع الذاهب إلى مزيدٍ من التفاقم على الأرجح، ولكن على أساس أنّ لبنان المنقسم على نفسه، ليس جاهزاً لأيّ مواجهةٍ باردة أو ساخنة في هذه المرحلة.

وانطلاقاً من كلّ ما سبق، قد يكون الردّ اللبنانيّ الأقوى على كلّ ما حصل ويحصل، إطلاق يد رئيس الحكومة المكلّف لإعلان تشكيلته الحكوميّة اليوم قبل الغد، لعلّها تنجح في إعادة بعض الأمل للبنانيين، هذا إذا قُدّر لها أن تصمد، ولم تسقط بالنيران الصديقة قبل غيرها كما يتوقّع كثيرون...