فجأةً، انقلبت المعطيات الحكوميّة رأساً على عقب، فتحوّل التفاؤل "المفرط" ب​الولادة​ الوشيكة إلى "تشاؤم"، ورُحّلت المواعيد المفترضة لها إلى آجالٍ غير معلومة، بل وصل الأمر بالبعض إلى إعادة ​النقاش​ بكلّ التفاصيل، من شكل الحكومة إلى حجمها ونوعها، وكأنّ شيئاً لم يكن منذ تكليف حسّان دياب ​تأليف الحكومة​.

أكثر من ذلك، ثمّة من بدأ يستشرف "سيناريوهات" كانت مُستبعَدة حتى الأمس القريب، من بينها "اعتذار" رئيس الحكومة المكلَّف، مُكرَهاً لا بطلاً، وهو العالِق على ما يبدو وسط معمعة "التخبّط" الظاهر لعرّابيه ومؤيّديه، غير المتّفقين حتى الآن على شكل الحكومة، التي قيل إنّها كانت على وشك الولادة قبل أيام.

ولعلّ تصريحات رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ أكثر من واضحة على هذا الصعيد، سواء لجهة دعوته إلى ما سمّاها بـ "حكومة لمّ الشمل"، أو قوله إنّه حاول تسهيل مهمة دياب، "ولكن هناك حدود لهذا الأمر"، ما أوحى وكأنّ "انقلاباً" على دياب ومهمّته قد بدأ، استكمله بري أصلاً بالمطالبة بتفعيل، وربما "تعويم"، حكومة ​تصريف الأعمال​.

بري يريد الحريري؟!

إذا كان من شيءٍ ثابتٍ وواضحٍ خلف تصريحات بري، فيتمثّل في كون رئيس مجلس النواب غير راضٍ عن المسار الحكوميّ على الإطلاق، ما دفعه إلى إطلاق "صرخةٍ" من شأنها أن تطيح بكلّ ما كان كثيرون يعتقدون أنّها "تفاهمات" سبقت تسمية دياب رئيساً للحكومة، وتمّ إبرامها بين "رفاق الصف الواحد" ممّا سمّوه.

بيد أنّ تسريبات الأيام الأخيرة ثبّتت وجود "تباينات" بين هؤلاء على كلّ التفاصيل الحكومية، حتى ما كان يُعتقَد أنّها "ثوابت"، وعلى رأسها شكل الحكومة التي لا يزال رئيس البرلمان يريدها على شاكلة الحكومات السابقة، ولو بتسميةٍ جديدة هي "لمّ الشمل"، فيما يصرّ آخرون، وبينهم دياب نفسه، على ضرورة أن تكون من الاختصاصيّين "المستقلّين" كما كرّر مراراً وتكراراً منذ تأليفه.

وإذا كان بري التزم الصمت على امتداد المرحلة الماضية، ما فُسّر على أنّه قبولٌ ضمنيّ منه ومن "​حزب الله​" بالتراجع عن الحكومة "التكنو-سياسية" لصالح حكومة "التكنوقراط"، وهو ما أوحت به تصريحاتٌ عديدة لبعض قياديّي "الحزب"، ممّن باتوا يدعون لتشكيل "أيّ حكومة"، بغضّ النظر عن شكلها، فإنّ كثيرين يعتقدون أنّ "​الانتفاضة​" على "الأمر الواقع"، جاءت على وقع التسريبات الحاصلة حول "تبادل الشروط" بين رئيس الحكومة المكلّف والوزير ​جبران باسيل​، ما أثار "غيظ" بري، الذي بات يميل في مكانٍ ما إلى تبنّي نظرية أنّ الحكومة لن تكون سوى "حكومة باسيل" كما يردّد الكثير من خصوم الرجل.

وبعيداً عن كلّ هذه الحسابات والاعتبارات، ثمّة من يقرأ في تصريحات بري دفعاً واضحاً لعودة رئيس حكومة تصريف الأعمال ​سعد الحريري​، وهو الذي كان ولا يزال مرشحه الرقم واحد ل​رئاسة الحكومة​، وهو ليس راضياً عن "الابتعاد القسري" للرجل، رداً على الإطاحة به، علماً أنّه يحمّل "​التيار الوطني الحر​" المسؤولية عن ذلك، على رغم إدراكه أنّ أيّ حكومة لا تحظى بـ "مباركة" الحريري، والسّنّة من خلفه، لن تقوى على الصمود بتاتاً.

أكثر من عائق...

انطلاقاً ممّا سبق، يمكن القول إنّ دعوة بري الواضحة للحريري لممارسة مسؤوليّاته في تصريف الأعمال تنمّ عن قناعةٍ راسخةٍ لديه بضرورة عودة الرجل أولاً من "غربته"، تمهيداً لإمكان إحياء عجلة المفاوضات الحكوميّة معه إلى مسارها السليم، علماً أنّ كثيرين من الدائرين في فلك بري يعتقدون أنّ حكومةً محدودة الصلاحيات يرأسها الحريري، من نوع حكومة تصريف الأعمال، تبقى أفضل وقعاً، إن تمّ تعويمها، من حكومةٍ أصيلةٍ برئاسة دياب، يمكن أن يُنظَر إليها على أنّها حكومة لون واحد أو مواجهة، ولو كانت بلا لونٍ ولا طعم من الناحية السياسيّة.

وإذا كان من البديهيّ القول إنّ "حزب الله" يؤيّد بري في مقاربته للملفّ الحكوميّ، بل إنّ مواقف الأخير جاءت بالتنسيق الكامل معه، ولو كان "الحزب" حريصاً على جري عادته على أن "يوازن" بين بري وحلفائه الآخرين، ولا سيما "التيار الوطني الحر"، فإنّ ثمّة من يتحدّث عن "عوائق" جدية إزاء مسعى تعويم الحريري، أولها من الوزير جبران باسيل، الذي يبدو كمن قطع "شعرة معاوية" مع رئيس حكومة تصريف الأعمال، في ضوء السجالات القائمة بين تياريهما، فضلاً عن الاتهامات المتبادلة بين الطرفين بالمسؤولية عن ​الفساد​، مع أنّ مسؤولين في "التيار" يؤكدون تسهيلهم لتأليف أيّ حكومة، وصولاً إلى حدّ "إلغاء الذات"، كما قال باسيل في حديثه التلفزيوني الأخير، في إشارة إلى استعداده للذهاب إلى المعارضة، تماماً كما كان قد أعلن إبان المفاوضات مع الحريري نفسه في مرحلةٍ سابقة.

ولعلّ من "العوائق" التي يمكن أن تواجه مسعى بري أيضاً، ما يتّصل برئيس الحكومة المكلّف الذي يردّد أمام الجميع أنّه لن يعتذر مهما اشتدّت الضغوط عليه، وأنّه يصرّ على إنجاز المهمّة المُلقاة على عاتقه حتى الرمق الأخير، وبمُعزَلٍ عن ​الكتل النيابية​ وشروطها، الأمر الذي يطرح تساؤلاتٍ بالجملة عن "الحصانة" التي ينطلق منها الرجل، وهو العارف أنّ أيّ حكومةٍ يشكّلها لن تبصر النور، من دون موافقة ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​، وفي حال أبصرت النور، لن تستطيع العمل من دون ثقة البرلمان، وهو الذي يواجه معارضةً من زهاء نصف البرلمان منذ ما قبل التأليف، فكيف بالحريّ إذا ارتأى مواجهة من سمّوه أنفسهم.

أصل البلاء!

منذ تكليف حسّان دياب تأليف الحكومة، قيل الكثير عن أنّ ثمّة، حتى من بين عرّابيه، من يراهن على إخفاقه في مهمّته، ما يفسح في المجال أمام عودة الحريري بشروطٍ جديدة، بعيداً عن "الحدّة" التي اتّسمت بها المفاوضات السابقة، وأدّت إلى خروجه، أو إخراجه بالأحرى، من السباق.

مع ذلك، استبشر كثيرون خيراً بالرجل، بعد المواقف "النوعيّة" التي أطلقها بعيد تكليفه، وصولاً إلى حدّ اعتقاد كثيرين بأنّه سيكسر الأرقام القياسيّة في تشكيل الحكومات، بدليل تحديد مواعيد لولادة الحكومة منذ ما قبل انتهاء الأسبوع الأول من تكليفه.

اليوم، يبدو أنّ الكثير من هذه التسريبات لم تكن سوى "أوهام"، بدليل قول رئيس مجلس النواب إنه لم يسمّ وزراءه بعد، معطوفاً على التسريبات المتتالية عن صراعاتٍ على الأسماء والحقائب بين رئيس الحكومة المكلّف، والكتلة النيابية الأكبر التي سمّته، أي تكتل "لبنان القوي".

إن دلّ ذلك على شيء، فليس على أن هناك من لا يزال يعمل لعودة الحريري فحسب، بل على أنّ هناك من لا يزال يستخفّ بالعقول ويضحك على الذقون، وكأنّ البلاد بألف خيرٍ، وأنّ هناك وقتاً وافراً للمزيد من المناورات، في سبيل "الكرسيّ"، أصل البلاء كلّه...