تشهد عمليّة تشكيل الحُكومة الجديدة ما يُمكن توصيفه بعبارة "هبّة باردة وهبّة ساخنة"-إذا جاز التعبير، حيث أنه ما أن يجري الحديث عن تذليل العقبات وعن قرب ولادة الحُكومة، حتى تتردّد معلومات مُناقضة تمامًا تتحدّث عن العودة إلى نقطة الصفر، لنعود بعد ذلك لنسمع نفيًا لأي تعثّر وحديثًا عن تذليل أغلبيّة العراقيل، وهكذا دواليك... لكن وبعيدًا عن المعلومات المُتضاربة، الثابت أنّ الحكومة الجديدة لم تتشكّل بعد، على الرغم من التدهور المُتسارع للأوضاع الإقتصاديّة والماليّة، وبطبيعة الحال للأوضاع المَعيشيّة والحياتيّة. فما هذه الأسباب التي عرقلت تشكيل الحُكومة؟.

أوّلاً: رئيس الحُكومة المُكلّف ​حسان دياب​ يُكرّر تمامًا ما فعله رئيس الحُكومة الأسبق ​نجيب ميقاتي​ خلال قيادته للحكومة اللبنانية رقم 72 في العام 2011، حيث أنّ هذا الأخير-وردًا على إتهامه بالمُشاركة في إزاحة رئيس "تيّار المُستقبل" ​سعد الحريري​ عن السُلطة، وبالتالي بإضعاف الطائفة السُنيّة، أظهر عنادًا كبيرًا في تعاطيه مع كلّ ما له علاقة بالطائفة السنّية، وبصلاحيّات رئيس الحكومة، بشكل فاق تصرّف الحريري نفسه في هذا المجال! واليوم، يُكرّر رئيس الحُكومة المُكلّف، المُتهم بدوره بأنه لا يُمثّل الشارع السنّي، وبأنّه يُساهم في إضعاف الطائفة بعد إبعاد الحريري مُجدّدًا عن السُلطة، التشبّث بصلاحيّاته، وهو مُصرّ على أن يتمّ تشكيل الحُكومة بالشكل الذي جرى التوافق عليه، أي-وكما بات معروفا، حُكومة تكنوقراط مُصغّرة من 18 وزيرًا ووزيرة، خالية من الوزراء والنوّاب الحاليّين، ولا وزراء دولة فيها، وتضمّ شخصيّات متخصّصة غير حزبيّة. وقد تسبّب هذا الأمر بأكثر من مُشكلة مع أكثر من جهة على علاقة بعمليّة التشكيل. واللافت أنّ رئيس الحكومة المُكلّف يحتمي بعدم وُجود أيّ نصّ دُستوري يُجيز سحب التكليف منه، لتعزيز موقعه التفاوضي، علمًا أنّ خيار مُجاراته في تشكيل الحُكومة، ومن ثم اللجوء إلى خيار عدم منحها الثقة في مجلس النوّاب، يُدخل السُلطة التنفيذيّة في مزيد من العجز ومن حال تكبيل اليدين، وهو لن يحصل!.

ثانيًا: "​الثنائي الشيعي​" الذي لم يكن يومًا مُقتنعًا بإبعاد رئيس الحُكومة سعد الحريري، والذي جارى خيار تكليف الوزير السابق حسّان دياب، نُزولاً عند طلب حليفه "التيّار الوطني الحُر" وبعد إنسداد أفق إقناع الحريري، لم يعد مُقتنعًا بهذا الخيار، وهو صار اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى، راغبًا بأن تكون الحكومة تكنو-سياسيّة، لأنّ الأوضاع في المنطقة لا تحتمل-برأيه، وُجود حُكومة لبنانيّة خالية من أي سياسي مُحنّك وصاحب خبرة. والمُعارضة الناعمة شكلاً، والحازمة مَضمونًا، التي يقودها رئيس مجلس النوّاب ​نبيه برّي​ لمسار تشكيل الحُكومة وفق ما يرغب به رئيس الحُكومة المُكلّف، يقف وراءها "​حزب الله​" المُصرّ على أن تضمّ الحُكومة مجموعة من الوزراء السياسيّين الموثوقين، شأنه في ذلك شأن "​حركة أمل​". وقد إمتنع "الثنائي الشيعي" عن تسليم الأسماء النهائية لوزرائه، إلى دياب، الأمر الذي أثّر بشكل سلبي ومباشر على مساعي التشكيل.

ثالثًا: على الرغم من كل ما يُقال ويتردّد عن حُكومة إختصاصيّين غير حزبيّة، إنّ تسمية هؤلاء الوزراء من قبل الأحزاب التي تملك الأغلبيّة النيابيّة، يضع هذه الأحزاب في موضع المُقرّر وصاحب الكلمة الأخيرة في أي عمليّة تصويت. من هنا يُوجد صراع مُستتر بين رئيس "التيّار الوطني الحُر" الوزير في الحُكومة المُستقيلة ​جبران باسيل​ من جهة، وكل من رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، ورئيس "تيّار المردة" النائب سليمان فرنجيّة، من جهة أخرى، على حجم الحُصص الوزاريّة.

رابعًا: تدهور في العلاقة ما بين رئيس الحُكومة المُكلّف، ورئيس "التيّار الوطني الحُر"، ما انعكس سلبًا على الإتصالات بينهما، وبالتالي على إتصالات التأليف ككلّ، في ظلّ تمسّك كلّ من الطرفين بمطالبهما على مُستوى الحكومة من دون أيّ تراجع حتى ​الساعة​، مع العلم أنّ أكثر من وسيط دخل في الساعات الماضية بينهما، لإعادة تأمين التواصل المُباشر بين دياب وباسيل، لإعادة تحريك عمليّة التشكيل.

في الخُلاصة، المشهد العام سوداويّ على خط إتصالات التأليف، ويبدو أنّ الأمور قد بلغت حاليًا أفقًا مسدودًا، ما قد يستدعي مُراجعة شاملة لمسار التشكيل ككلّ خلال الساعات القليلة المُقبلة. لكنّ حجم التدهور الخطير الذي ينزلق إليه لبنان واللبنانيّون بوتيرة مُتسارعة، من شأنه أن يقلب هذا الواقع من جديد في أيّ لحظة، بحيث يُمكن أن تنقلب الصُورة من مُتشائمة إلى مُتفائلة في أيّ لحظة، عبر تقديم تنازلات عدّة من قبل أكثر من طرف معني بعمليّة التشكيل، خصوصا وأنّ الضغوط الخارجيّة على لبنان تتنامى بخطّ مُواز لتصاعد النقمة الداخليّة. وهناك من يتحدّث عن تصعيد مفاجئ في كلام "التيّار الوطني الحُرّ" و"حركة أمل" للضغط على رئيس حكومة ​تصريف الأعمال​، وبالتالي لدفعه إلى تخفيض شروطه، لا سيّما وأنّه بات يُطالب بوزارات سياديّة من حصّته. في كلّ الأحوال، الأيّام القليلة المُقبلة ستُحدّد ما إذا كانت الأمور ستتجّه مُجدّدًا نحو تذليل العقبات التي إستجدّت، من خلال تقديم تنازلات مُتبادلة، أم نحو نسف خيار حُكومة الإختصاصيّين برئاسة دياب برمّتها.