يوماً بعد يوم، يظهر أكثر فأكثر أنّ قرار "الانقلاب" على رئيس ​الحكومة​ المكلّف حسّان دياب، الذي ظهر خلف تصريحات رئيس ​المجلس النيابي​ ​نبيه بري​ الأسبوع الماضي، والدعوات لإعادة النظر بشكل الحكومة من الأصل، جدّيٌ، وقد سلك طريقه نحو التنفيذ.

ولعلّ المؤشّر الأبرز لذلك يتمثّل في "الانسحاب التدريجيّ" لكلّ "عرّابي" تسمية دياب من الحكومة التي يسعى لتأليفها، بدءاً من رئيس البرلمان، ومن خلفه "​حزب الله​" على الأرجح، مروراً بتيار "المردة" الذي رفع سقف مطالبه وشروطه، وصولاً إلى "​التيار الوطني الحر​" الذي يتّجه إلى إعلان قرار المقاطعة خلال ​الساعات​ المقبلة.

وإذا كان الوزير ​جبران باسيل​ مهّد لمثل هذا القرار بإعلانه في أكثر من مناسبة استعداده لـ"إلغاء الذات" في سبيل "تسهيل مهمّة" رئيس الحكومة المكلّف، فإنّ هذا العنوان "الفضفاض" الذي يتبنّاه الجميع بدأ يثير الكثير من علامات الاستفهام داخل الدائرة الضيّقة المحيطة بدياب، الذي بدأ يشعر بأنّ قراراً بـ"محاصرته" قد اتُخِذ على أعلى المستويات...

"اشتباك" بين الرفاق؟!

قد يكون البيان الأخير الذي أصدره دياب، وخرج فيه عن صمتٍ التزمه منذ يوم تكليفه، هو الذي أخرج الجميع عن طورهم، بعدما بدا رئيس الحكومة المكلّف وكأنّه "يشكو" من سمّوه للرأي العام، ويرفع السقف في الوقت نفسه، معلناً مضيّه في مهمّته حتى الرمق الأخير، ومهما كلّف الأمر، بمُعزَلٍ عن كلّ الظروف المحيطة.

لكن، وبمُعزَلٍ عن موقف دياب الأخير، والآراء المتباينة والمتفاوتة بشأنه، فإنّ ثمّة من يرى أنّ الرجل يدفع في مكانٍ ما، "ثمن" الخلافات المتفاقمة بين أفرقاء "اللون الواحد" الذين سمّوه، ولا سيما بين ​رئيس الجمهورية​ و"التيار الوطني الحر" من جهة، ورئيس ​مجلس النواب​ نبيه بري وحركة "أمل" من جهةٍ ثانية.

وقد برز هذا "الاشتباك" بشكلٍ خاص من خلال "التسريبات" التي تمّ تداولها خلال المرحلة الماضية عن مسعى "التيار" للاستئثار بالثلث المعطّل في الحكومة، في مفارقةٍ بدت مثيرة للاهتمام، خصوصاً أنّ الحكومة التي يُقال تارةً إنّها ستتألف من اختصاصيّين مستقلّين وطوراً من سياسيّين بزيّ "التكنوقراط"، تبقى محسوبةً على فريقٍ واحدٍ، بل ثمّة من صنّفها سلفاً على أنّها حكومة "مواجهة"، أو "لون واحد" في حال حسن النوايا.

ومن هذه الزاوية بالتحديد، يُقرَأ "الاستنفار" الذي قاده رئيس البرلمان الأسبوع الماضي، في مواجهة دياب، وخيار حكومة "التكنوقراط"، بعد أسابيع من الموافقة الضمنيّة ولو عبر الصمت، والذي أوصله إلى حدّ "الاعتكاف"، أو حتى عدم الرغبة بالمشاركة في الحكومة، إذا لم تتغيّر معايير تشكيلها، ما قد يشكّل "سابقة" من نوعها في التاريخ الحديث.

أما موقف الوزير السابق ​سليمان فرنجية​ الذي طالب بمعرفة "حجم جبران باسيل" في الحكومة، ملوّحاً بمقاطعتها في حال عدم الحصول على وزيريْن فيها، مع أنّ عدد نوابه في البرلمان لا يتخطّون الأربعة، فجاء برأي كثيرين لينطق بحقيقة موقف بري، بالنظر إلى العلاقة "المتينة" بين الرجليْن، والتنسيق الدائم بينهما في كلّ الاستحقاقات.

دياب في مأزق!

هكذا، تبدو الصورة الحكوميّة قاتمة جداً قبيل ذكرى مرور شهرٍ على تكليف دياب، الذي سبق أن منح نفسه مهلة تتراوح بين أربعة وستّة أسابيع لتأليف حكومته، التي اصطدمت سلفاً بـ"فيتو" الأفرقاء الذين لم يسمّوه، وإن ارتأى بعضهم "الانتظار" لإعلان موقفه من باب "رفع العتب" ربما.

فبعد مقاطعة أحزاب "​المستقبل​" و"​القوات​" و"​الكتائب​" و"الاشتراكي" لدياب وحكومته، بدأ "التنافس" بين باقي الأحزاب الفاعلة والأساسيّة على مقاطعة الشأن الحكوميّ، بدءاً من بري، ومن خلفه "حزب الله" الذي يؤكّد العارفون أنّه لا يمكن أن يشارك في حكومة يقاطعها حليفه الأول، وصولاً إلى الوزير جبران باسيل الذي بدأ التمهيد لقرار "المقاطعة"، في تكرارٍ للسيناريو الذي سبق أن أطاح بجهود تشكيل حكومة برئاسة رئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ ​سعد الحريري​.

وإذا كان كلّ من هؤلاء يبرّر قراره بالرغبة بـ"تسهيل مهمّة" رئيس الحكومة المكلّف، باعتبار أنّ بري مثلاً لا يرى في حكومة "التكنوقراط" أساساً لأيّ حلّ للأزمة الراهنة، فيما يعتبر باسيل أنّ انسحابه من شأنه أن يعيد الآخرين، ممّن يتوجّسون من "نفوذه" في الحكومة خلافاً للواقع، فإنّ دياب يشعر أنّ الأمر لا يعدو كونه مجرّد "تمثيليّة"، وكأنّ هناك اتفاقاً ضمنياً بين من كلّفوه على سحب دعمهم له، بعد تغيّر المُعطيات الإقليمية والدولية، وشعور البعض بالحاجة إلى العودة إلى الصيغ الحكومية القديمة، ولو ثبت فشلها وعقمها.

وبين هذا وذاك، قد لا يكون خافياً على أحد أنّ دياب، المصرّ على استكمال مهمّته حتى النهاية، بات في مأزقٍ حقيقيّ، فصحيح أنّ ​الدستور​ يعطيه الحقّ بالبقاء في موقعه إلى الأبد لو شاء، وصحيح أنّ أحداً لا يستطيع ابتزازه بسحب التكليف عنه، إلا أنّه يدرك أنّ "تخلي" الجميع عنه يعقّد مهمّته أكثر ممّا هي معقّدة أصلاً، وهو الذي لم ينجح حتى الآن في استمالة "الحراك الشعبيّ" لصالحه، في ضوء المؤشّرات عن انتهاء "المهلة" التي منحه إياها وعودته إلى الشارع، ولا في استمالة الشارع السنّي بطبيعة الحال، "الثائر" ضدّ تسميته منذ اليوم الأول، وهي التسمية التي افتقدت لأيّ "غطاءٍ" لا من القوى السنية الفاعلة، ولا حتى من ​دار الإفتاء​.

لا يُحسد على موقفه؟!

لا يُحسَد حسّان دياب على موقفه، ربما. على طريقة ​نجيب ميقاتي​ سابقاً، جاء الرجل بأصوات ما يزيد على نصف البرلمان، لكنّه قرّر استمالة النصف الثاني بكلّ السبل المُتاحة، من دون أن ينجح في مراده، فبدأ يخسر من رصيده رويداً رويداً.

قَبِل دياب التكليف ممّن رفضوا شرط حكومة "التكنوقراط" الذي رفعه الآخرون، فارتأى أن يسير بالشرط نفسه، لعلّه يكسب "ثقة" من رفضوا منحه أصواتهم، وتوهّم بأنّه حصل على "الغطاء" الضروريّ لذلك، فإذا بمن سمّوه "ينقلبون" عليه قبل إتمام مهمّته.

لا يُحسَد دياب على موقفه ربما، هو الذي يعاني في مواجهة مكلّفيه، والمعترضين على تسميته، ويعاني في الوقت نفسه، نتيجة "الحرب الطاحنة" من عرّابيه، والتي تجعل شعار "حكومة اللون الواحد" عصياً على الاستيعاب، حتى ممّن يرفعونه.

يبقى "القرار" بيد دياب وحده، فهل يذهب حتى النهاية في "طموحه" الانضمام إلى نادي رؤساء الحكومات، وعلى طريقته؟ هل يستطيع تشكيل حكومةٍ من دون "مباركة" الأحزاب، ولو لم تحصل على الثقة؟ هل يمنحه رئيس الجمهورية أصلاً "شرف" التوقيع على مثل هذه الحكومة؟!.