يُواجه ​لبنان​ حاليًا أزمة حادة مُثلّثة الأجزاء، تشمل الخلافات السياسيّة المُستفحلة، والكارثة الإقتصاديّة-الماليّة المُتفاقمة، والتدهور السريع على المُستوى المعيشي والحياتي لأغلبيّة كبيرة من اللبنانيّين. وفي ظلّ هذه الظُروف عادت عمليّات قطع الطُرقات المُتنقّلة، وإرتفع مَنسوب التوتّر من جديد. فهل بلغنا مرحلة الإنفجار الشعبي الكبير؟!.

في الشقّ السياسي، وبعد أن كان لبنان يُعاني في السابق إنقسامًا عموديًا(1)، بلغ التشرذم في المرحلة الأخيرة، الصُفوف الداخليّة ضُمن كل فريق، مع بروز خط سياسي وشعبي ثالث-إذا جاز التعبير، يتمثّل في الرأي العام الرافض لكل الأطراف السياسيّة. وإنطلاقًا مِمّا سبق، لم تنجح بعد مُحاولات تشكيل حكومة جديدة، نتيجة جملة من الأسباب المُتداخلة والمُتشابكة، في ظلّ خلافات مُستغربة بين رئيس ​الحكومة​ المُكلّف حسّان دياب وبعض القوى التي أمّنت له أغلبيّة عدديّة للحُصول على التكليف، وفي ظلّ تباينات في الرأي بين القوى الحزبيّة الثلاث الرئيسة التي أخذت على عاتقها مسألة تأمين الأغلبيّة النيابيّة للحُكومة المُنتظرة(2)، في ظلّ إحتمال عدم منحها الثقة من قبل قوى سياسية رئيسة أخرى، وفي طليعتها "تيّار المُستقبل" وحزب "​القوات​ اللبنانيّة" وبعض الأحزاب الصغيرة والشخصيّات النيابيّة المُستقلّة، علمًا أنّ موقف الحزب "الإشتراكي" يتأرجح تبعًا للحصّة التي سينالها في الحُكومة المُقبلة. وبين قوى سياسيّة عدّة ترغب بإفشال العهد الرئاسي للعماد ​ميشال عون​، وأخرى تلتقي على إنهاء حُظوظ رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" الوزير ​جبران باسيل​ الرئاسيّة، وثالثة تُلاقي المُحاولات الخارجيّة لإضعاف ولمُحاصرة "​حزب الله​"، ورابعة تسعى لإبعاد "تيّار المُستقبل" وحزب "القوات" عن السُلطة والإدارة، وخامسة تهدف إلى إضعاف نُفوذ الحزب "الإشتراكي" وغيره، إلخ. لا يبدو أنّ الطريق سيكون سالكًا أمام أي حُكومة تُمثّل جزءًا من القوى السياسيّة دون سواها. والأكيد أنّ الفئات غير الحزبيّة ضُمن ​الحراك الشعبي​، لن تُسهّل بدورها أعمال أي حكومة لها علاقة بأحزاب السُلطة مباشرة أو غير مُباشرة.

بالنسبة إلى الكارثة الإقتصاديّة-الماليّة المُتفاقمة فهي تتمثّل في إستمرار إقفال المُؤسّسات والشركات والمحال التجاريّة، بوتيرة مُتصاعدة ومخيفة. ومع كل إقفال جديد، يزداد عدد العاطلين عن العمل، وتتأثّر ​الدورة​ الإقتصادية بشكل سلبي أكثر فأكثر. ويُمكن القول اليوم، إنه لم تعد تُوجد أيّ دورة إقتصاديّة في لبنان حاليًا، أي أنّ مُشتريات القسم الأكبر من اللبنانيّين باتت تقتصر في هذه المرحلة على شراء الغذاء، وعلى تسديد الحد الأدنى من الفواتير التي تؤمّن إستمرار الحُصول على خدمات ​الهاتف​ و​الكهرباء​، إلخ. وقيام بعض اللبنانيّينالمُتمكّنين ماليًا، بمحاولة إنقاذ ما يُمكن إنقاذه من أموالهم في ​المصارف​، عبر التوجّه إلى شراء ​العقارات​ والسيّارات وبعض الكماليّات، ليس له تأثير كبير على الدورة الإقتصاديّة المَقطوعة. وبالتالي، إنّ مداخيل ​الدولة​ تراجعت بشكل كبير، بشكل يُنذر بأن تُضطرّ مُستقبلاً للإستدانة أكثر فأكثر، لتغطية هذا ​العجز​، علمًا أنّ إستحقاقات تسديد ديون لبنان تتوالى فُصولاً، حيث تتجه الأنظار إلى كيفيّة التصرّف إزاء إستحقاق التاسع من آذار المُقبل، حيث يُفترض سداد سندات خزينة بقيمة تزيد عن 1,2 مليار دولار(3)، مع التذكير أنّ لبنان لم يتخلّف مرّة عن الوفاء بإلتزاماته المالية-أقلّه حتى تاريخه. وبدأ يتردّد جديًا، أنّ الخيارات تضيق أمام لبنان في هذا المجال، حيث قد يكون مُضطرًّا إلى إعادة هيكلة الدين، وإلى اللجوء إلى خيار الحُصول على سندات دين أطول أجلاً مع زيادة الفوائد! وعلى خطّ مُواز، تواجه المصارف اللبنانيّةوضعًا كارثيًا يتمثّل في إنعدام الثقة بين المودعين وإداراتها، الأمر الذي حوّل هذه الأخيرة إلى مجرّد آلة لسحب الأموال فقط لا غير، لكن طبعًا بالقدر الضئيل المَسموح به ووسط ظروف إذلال غير مُسبوقة. وهذا الواقع لا يُبشّر بالخير بالنسبة إلى مُستقبل المصارف، بعد بضعة أشهر بالحد الأقصى.

وفي ما خصّ المُستوى المعيشي والحياتي لأغلبيّة كبيرة من اللبنانيّين، فهو قد تراجع إلى أقصى الدرجات خلال الأشهر القليلة الماضية، علمًا أنّ الركود الإقتصادي كان أطلّ برأسه منذ سنوات. لكن مع توالي فقدان المزيد من أرباب العائلات لوظائفهم، أو لجزء كبير من رواتبهم، ناهيك عن تقلّص القُدرة الشرائية نتيجة إرتفاع الأسعار، سقط نحو 1,5 مليون لبناني تحت خط ​الفقر​، بحسب إحصاءات أجريت نهاية العام الماضي، علمًا أنّ هذا الرقم في تصاعد مُستمرّ وسريع. وبات القلق هو الهاجس المُشترك بين أغلبيّة واسعة من اللبنانيّين، في ظل توقّعات سوداويّة للمُستقبل، الأمر الذي حوّل الوضع من سيء إلى أسوأ، بحيث توقّف الكثيرون ليس فقط عن صرف أيّ أموال في ​المطاعم​ والمحال التجارية وعلى الترفيه بشكل عام، بل أيضًا عن دفع أي فواتير وأي أقساط مدرسيّة، الأمر الذي يُنذر بإنهيار المزيد من القطاعات قريبًا. وبسبب الفارق الكبير بين سعر الصرف الرسمي للدولار، وسعر صرفه لدى المصارف، تأثّرت مُختلف القطاعات التي تستورد موادَّ أوّلية من الخارج، بحيث إرتفعت أسعار بعض السلع والخدمات بشكل كبير، في حين نفدت بعض السلع الأخرى من الأسواق، وبدأت بعض الخدمات الحيويّة تُشلّ تدريجًا، ومنها القطاع الإستشفائي، ناهيك عن البلبلة المُستمرة على مُستوى مبيع المُشتقات النفطيّة من بنزين وفيول وُصولاً إلى ​الغاز​، ومن دون أن ننسى أيضًا تأثّر التغذية الكهربائية سلبًا، علمًا أنّ ​كهرباء لبنان​ هي أحد أهم أسباب عجز الميزانية الماليّة للدولة منذ عُقود.

في الخُلاصة، إنّ إستمرار المسؤولين الرسميّين والقوى السياسيّة في تقاذف المسؤوليّة، وكذلك في مُحاولة التنصّل من أي مسؤوليّة عمّا حدث ويحدث، لا يُبشّر بقرب الخروج من هذا النفق المُظلم. وما لم تبدأ المُعالجة سريعًا، بدءًا بتوفير ظروف الإستقرار السياسي، مرورًا بإتخاذ إجراءات إقتصاديّة وماليّة إنقاذيّة حازمة، وُصولاً إلى تأمين الأموال و​القروض​ من الخارج بشكل سريع، فالأكيد أن لبنان يسير بخطى حتميّة نحو الإنفجار الشعبي الكبير، وبشكل يتجاوز بكثير مساعي بعض القوى السياسيّة في الخفاء، لتحريك الإحتجاجات هنا أو هناك!.

(1) عانى لبنان إنقسامات سياسيّة حادة منذ عودة الحريّة إلى العمل السياسي الداخلي في العام 2005، وكان الإنقسام عموديًا بين فريقي قوى 8 و​14 آذار​ لسنوات عدّة، قبل أن تتفرّق هذه القوى السياسيّة أكثر فأكثر في السنوات القليلة الماضية.

(2) أي كلّ من "التيار الوطني الحُرّ" و"​الثنائي الشيعي​" وبعض الأحزاب الصغيرة والشخصيّات التي تدور في فلك قوى "8 آذار".

(3) تذكير أنّ لبنان كان سدّد منذ بضعة أسابيع سندات "يوروبوندز" بقيمة 1,5 مليار دولار أميركي.