بعد أسابيع من الانكفاء والهدوء، عاد ​الحراك الشعبي​ّ بزخمٍ إلى الشوارع والساحات، ليجدّد بشكلٍ أو بآخر "​الثورة​" على الطبقة السياسيّة، وتحديداً على أداء السياسيين، الذين فشلوا في "توظيف" الوقت المستقطع لتقديم الحدّ الأدنى الممكن لمعالجة ​الأزمة​، ولا سيما لجهة تشكيل حكومة الإنقاذ المنتظرة.

وإذا كانت لعودة الحراك اليوم مبرّراتها من حيث التوقيت، بعد انقضاء ما سُمّيت بـ"هدنة الأعياد"، معطوفةً على "مهلة السماح" التي أعطيت بصورةٍ غير مباشرة لرئيس ​الحكومة​ المكلّف حسّان دياب لإظهار حسن نواياه، فإنّ كثيرين توقفوا عند "مصادفة" التزامن بين تصاعد الحراك، وعودة رئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ ​سعد الحريري​ إلى البلاد.

فهل يمكن الحديث عن أيّ "رابطٍ" بين الأمريْن، خصوصاً بعد المعلومات التي تمّ تداولها الأسبوع الماضي عن "انقلابٍ" على دياب لصالح الحريري؟ وهل ثمّة فعلاً من "يراهن" على إسقاط دياب عبر الشارع، تمهيداً لعودة الحريري، التي بدأ يطالب بها صراحةً العديد من "عرّابي" تسمية دياب، ولو من باب تصريف الأعمال أولاً؟!

"خطايا" ​السلطة​!

قد يكون من المفيد بدايةً، وقبل الغوص في دهاليز "نظريات المؤامرة" التي تأخذ مجدها على امتداد الساحة اللبنانية، الإقرار بأنّ تصاعد الحراك الشعبي هو نتيجة طبيعيّة، بل حتميّة، لـ"الخطايا" التي ارتكبتها السلطة السياسية خلال الفترة الأخيرة، خصوصاً على مستوى مفاوضات ​تأليف الحكومة​، وصولاً إلى حدّ إعادتها إلى "نقطة الصفر" في وقتٍ من الأوقات.

من هنا، قد يكون من المجدي أن يراجع "فريق التكليف" أداءه على امتداد الأيام الأخيرة، قبل أن "يجتهد" في تحميل الحراك ما قد لا يحمله، وحتى قبل التفكير بـ"ردّة الفعل" المُتاحة على ما حصل ويحصل، خصوصاً أنّ هناك من المتعاطفين مع هذا الفريق بالتحديد، من يحمّله المسؤوليّة شبه المُطلَقة عن موجة ​الاحتجاجات​ ​الجديدة​، بمُعزَلٍ عن شكلها وحجمها.

ولعلّ "الخطيئة" الأبرز التي ارتكبها هذا الفريق تتمثّل في نهج "المماطلة" المُعتمَد على خطّ تأليف الحكومة، وبالطريقة نفسها التي كانت تؤلَّف فيها الحكومات في السابق، ولو حرص كلّ مكوّنٍ من هذا الفريق على إظهار "زُهدٍ" يبدو "وهمياً"، عبر الإيحاء بأنّه مستعدٌ لعدم المشاركة في الحكومة، مباشرةً أو بالواسطة، مع التعهّد بمنحها الثقة لكي تستطيع أن تحكم. ويمكن القول إنّ "نشر الغسيل" بين أطراف "فريق التكليف" عبر الإعلام زاد الطين بلّة، خصوصاً مع تفجّر الصراعات داخل الفريق الواحد افتراضياً، ولا سيما بين رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ من جهة، ورئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير ​جبران باسيل​ من جهة ثانية.

وإذا كان هذا الفريق لم يصدُق بفرضية "الترابط بين التكليف والتأليف" التي كان يردّدها قياديّوه بكلّ ثقة لتبرير تأخير ​الاستشارات النيابية​ لتسمية رئيس الحكومة الجديد، فإنّه وبدل أن يعمل على "تسريع" الخطى لتأليف الحكومة، وقع في "فخّ" الحصص والحقائب تماماً كما كان يجري في السابق، وفُتِح باب "المزايدة" حتى أمام من كانوا أعلنوا مقاطعة الحكومة، وفي مقدّمهم رئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ​وليد جنبلاط​ الذي "فضح" بنفسه "كواليس" المفاوضات التي دخل على خطّها مباشرةً، وصولاً إلى حدّ التهديد بالانسحاب من السباق كلياً، في تكرارٍ للسيناريو نفسه الذي سبق أن اعتُمِد مع الحريري، إبان المفاوضات التي جرت معه حول شكل الحكومة التي يزمع تشكيلها، إن كُلّف.

نظريات "المؤامرة"...

كلّ ما سبق، معطوفاً على الإذلال اليوميّ الذي يشعر به المواطنون في ​المصارف​ وغيرها، من شأنه أن يشكّل سبباً موجباً كافياً لوضع حدّ لكلّ نظريات "المؤامرة" التي يمكن أن تُطلَق من كلّ حدبٍ وصوبٍ على خلفيّات تصاعد "الحراك"، إلا أنّ شيئاً من ذلك لم يحصل، لتتصدّر "التكهّنات" في هذا السياق كلّ ما عداها من اهتمامات خلال ​الساعات​ الماضية.

ولعلّ المفارقة المثيرة للانتباه أنّ "التزامن" بين عودة رئيس حكومة تصريف الأعمال وتصاعد الحراك، شكّل "مادّةً" للتصويب لكلّ الأطراف، فثمّة من رآه مثلاً دليلاً على أنّ ​المتظاهرين​ يريدون إسقاط دياب لصالح عودة الحريري، فيما اعتبره مناصرون للأخير محاولةً لضرب أيّ مسعى لعودة الرجل بأيّ شكلٍ من الأشكال، علماً أنّ هناك داخل "الحراك" من تبنّى نظرية "المؤامرة"، ليعتبر أنّ السلطة السياسية باتت مشجّعة للتحرّكات الاحتجاجية، لعلّها تنجح في إسقاط دياب الرافض للاعتذار بالمُطلَق.

لكن، وبعيداً عن هذه السيناريوهات، وبمُعزَلٍ عن حجم "التضليل" الذي تحمله بين طيّاتها، فإنّ كثيرين يرون أنّ عودة "الحراك" قد تكون أثمرت سريعاً بشكلٍ معاكِس، لجهة إعادة "ضخّ" الحرارة على خطّ تأليف الحكومة، بعد اقتناع جميع الفرقاء بأنّ الوقت ليس لصالحهم، وهو ما فتح باب "المفاوضات" بين بري وباسيل مثلاً، ودفع الأخير إلى التراجع عن إعلان موقفٍ كان المقرّبون منه وصفوه بـ"المتقدّم والنوعيّ"، في إشارةٍ إلى نيّته عدم المشاركة في الحكومة، ما كان من شأنه إضفاء المزيد من "التعقيد" على خطّ تأليف الحكومة، وصولاً إلى نعيها إن جاز التعبير.

وبالنتيجة، فإنّ الربط بين تصاعد الحراك وعودة الحريري لا يبدو منطقياً، علماً أنّ الكثير من الفاعلين على خطّ التأليف الحكوميّ يؤكّدون أنّ صفحة الحريري طويت، وأنّ العودة إلى الوراء لا تبدو خياراً ممكناً في هذا الظرف، حتى في حال اعتذار رئيس الحكومة المكلّف، ولو أنّ بعض الشخصيات على غرار رئيس البرلمان تحبّذه، لأنّ ثمّة ما يمكن اعتباره "فيتو" يضعه ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ في المقابل، ومن خلفه "التيار الوطني الحر"، على اسم الحريري، الذي تشير بعض المعطيات أصلاً إلى أنّه شخصياً لا يرغب بالعودة، ولو أنّ مثل هذه التصريحات سبق أن أطلقها الرجل، ليتبيّن عند "ساعة الجدّ" أنّها كانت تفتقد للكثير من الدقّة.

لمراجعة نقديّة...

أياً كان التقييم الموضوعيّ للحراك الشعبيّ، وبمُعزَلٍ عن النقد الممكن لمن يوصَفون بـ "ركّاب موجته"، فإنّ الأكيد أنّ إطلاق "نظريات المؤامرة" على عودته اليوم إلى الشارع لا يستقيم، بالمقارنة مع ​العجز​ السياسي عن معالجة أيّ من أسباب الأزمة، بعد زهاء ثلاثة أشهر على انفجارها في الأصل.

فعلى امتداد المرحلة الماضية، وبدل الشروع في خطوات "الإنقاذ" الضرورية، تفاقمت الأزمة أكثر وأكثر، لتلامس "الانفجار الاجتماعي". ازداد إذلال المواطنين، وباتوا كمن "يتسوّلون" قوت يومهم من مدّخراتهم في المصارف، وسط تهديدٍ بأزمات معيشية واجتماعية متتالية عليهم، ومن كلّ القطاعات الحيويّة.

رغم ذلك، لم يشعر أحد بالحاجة إلى القفز فوق سجالات شكل الحكومة وحجمها، والحقائب والحصص ونفوذ كلّ فريقٍ فيها، فضلاً عن نوعيّة الوزراء وأسمائهم، وهي سجالاتٌ لم يخجل أحد من الخوض فيها على الهواء مباشرةً، وكأنّ البلاد بألف خير، ولا شيء يدعو للعجلة، والمطلوب تحصيل المزيد من المكاسب، لا أكثر ولا أقلّ...