الإختلاف بالآراء كبير إزاء الإحتجاجات المُتعدّدة والمُنوّعة في الشارع، ليس منذ 17 تشرين الأوّل الماضي فحسب، بل منذ سنوات عدّة. فهناك من يَعتبر ما يحصل ثورة شعبيّة مُحقّة بكامل تصرّفاتها، وهناك من يَعتبر الأمر حراكًا يُخطئ في مكان ويصيب في مكان آخر، وحتى هناك من يَعتبر ما يحصل مُجرّد تحرّكات حزبيّة مُسيّسة بغطاء مَطلبي معيشيّ! واليوم، وفي الوقت الذي تتجه فيه الأنظار نحو ما هو مَطلوب من الحُكومة ​الجديدة​ لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، من الضروري التشديد على أنّ ما هو مَطلوب من الناس الثائرين والمُحتجّين في الشوارع، يفوق بأهمّيته ما ستنجزه أيّ حُكومة.

بداية لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ كل أعمال التخريب للمُمتلكات العامة والخاصة، وكل أعمال التعرّض للقوى الأمنيّة الرسميّة، من قبل مُلثّمين ومُثيري شغب مَشبوهين، مرفوضة جُملة وتفصيلاً. فتكاليف الأعمدة في الشوارع وإشارات المُرور والعدّادات الخاصة بركن السيارّات، إلخ. مَأخوذة من أموال الشعب ال​لبنان​ي، وهي واجهة أيّ دولة حضاريّة، ما يستوجب الحفاظ عليها وإدانة أيّ تخريب لها. وإذا كان صحيحًا أنّ الناس تُعاني الأمرّين ممّا حصل ويحصل لأموالها في ​المصارف​، وغير راضية عن الهندسات الماليّة التي إعتمدت، فإنّ الأصحّ أنّ تحطيم أي مصرف أو أي آلة سحب للأموال، يعود بنتائج عكسيّة، لجهة زيادة القُيود على عمليّات سحب الأموال، ولجهة تعريض الودائع الماليّة لمخاطر أكبر، علمًا أنّ مُثيري الشغب الذين يقومون بهذه الأعمال المُشينة لا يمكن أن يكونوا من الأشخاص الذين يتعرّضون للذلّ عند سحب أموالهم من المصارف، لأنّ هؤلاء حريصون أكثر من غيرهم على أن تُحافظ المصارف على إستمراريّتها، منعًا لخسارة جنى عمرهم! وفي السياق عينه، ومع تسجيل الرفض لضرب أيّ إعلامي، وأيّ مُتظاهر سلمي، إنّ التعرّض لأيّ ​عسكري​ أو عُنصر أمن رسمي مَرفوض كليًا، فهذه القوى العسكريّة هي من عامة الشعب، وتُعاني ما يُعانيه وأكثر، وهي مُلزمة بتنفيذ الأوامر التي تتلقّاها-بغضّ النظر عن أسلوب كل مَأمور خلال التنفيذ، وهذه القوى هي في النهاية الأمل الباقي أمام اللبنانيّين لإقامة دولة حقيقيّة وقويّة في يوم من الأيّام، بعيدًا عن سُلطات قوى الأمر الواقع السياسيّة والطائفيّة، خاصة المُسلّحة منها.

وبالنسبة إلى عمليّات قطع الطُرقات، فإنّ هذا الأمر يُمثّل موضوعًا خلافيًا داخليًّا ضُمن مُؤيّدي التحرّكات الشعبيّة المُعترضة على أنواعها، قبل أن تكون مسألة خلافيّة بين مُناصري الحراك، من جهة، والرافضين له–أو على الأقلّ اللامبالينبه، من جهة أخرى. والقول إنّ قطع الطُرقات هو الوسيلة الوحيدة للضغط على السُلطة الحاكمة، لا يُقنع الكثيرين، باعتبار أنّ هذا الأسلوب يتسبّب بمُعاناة كبرى لكثير من المُواطنين الذين يُحاولون الوُصول إلى وُجهاتهم، أكانت مركزًا تربويًا أو مكانَ عمل أو مُستشفى أو عيادة طبيب، إلخ. وهو يدفع الكثيرين إلى إتخاذ مواقف سلبيّة من المُحتجّين، على الرغم من أحقيّة مطالبهم. صحيح أنّ العديد من الأشخاص الذين ينزلون إلى الشوارع، تعبيرًا عن الغضب إزاء إستهتار السُلطة، ورفعًا للصوت أمام التقصير الفاضح في توفير أدنى الخدمات الحيويّة للمواطنين، وفرص العمل، والحق في ​الحياة​ الكريمة، يشعرون بالظُلم عند وصفهم بقُطّاع الطرق وبالزعران، لكنّ الأصحّ أنّ شلّ البلاد يجب أن يكون شاملًا ليُعطي نتيجة، والأهمّ أنّه كان يجب أن يحصل في الأيّام الأولى من الإنتفاضة الشعبيّة، وليس اليوم بعد أن صار الكثير من المُواطنين تحت خطّ ​الفقر​ ويُجاهدون لتأمين قُوتهم اليوميّ.

وبعيدًا عن التوظيف السياسي لبعض التحرّكات في الشارع، من قبل هذه الجهة الحزبيّة أو تلك، وبعيدًا أيضًا عن الإنقسام في صُفوف المُحتجّين الذين لبعض الجماعات منهم أجندات مُختلفة وحتى مُناقضة لأجندات جماعات أخرى، يُمكن الإستفادة من النقمة الشعبيّة على الطبقة الحاكمة، للقيامبدور رقابي مُهمّ جدًا. فأيّ قرار غير مُنصف من قبل السُلطة التنفيذيّة، وأيّ حديث عن إحتمال حُصول صفقة بين أكثر من جهة، وأيّ تجاوز للقوانين المَرعيّة في أسلوب إدارة الحُكم، إلخ. يُمكن أن يُواجه بتحرّك شعبي مُعترض على الأرض، بمُواكبة من وسائل الإعلام، بشكل سيدفع الكثيرين إلى إعادة حساباتهم. وليس بسرّ أنّه في الدول المُتقدّمة، إنّ سلاح الإعلام فتّاك في تدمير سُمعة أيّ شخصيّة عامة، وإنّ التحركات والإعتصامات و​التظاهرات​ الشعبيّة تُعتبر من الوسائل المُؤثّرة في تصحيح الكثير من السياسات الحُكوميّة، وفي التراجع عن الكثير من القرارات والقوانين، إلخ. وبالتالي، يُمكن أن نبدأ في لبنان بتعميم هذه الثقافة الرقابيّة الواعية، على الرغم من أنّ الطريق لن يكون مَفروشًا بالورود، نتيجة الإنقسامات السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة المُتجذّرة في عُقول أجيال عدّة من اللبنانيّين. وبالنسبة إلى من يتطلّع إلى التغيير الشامل، فالطريق الوحيد لتحقيق هذا الهدف يمرّ بنتائج الإنتخابات النيابيّة. وهنا لا بُدّ من التشديد على أنّه ما لم تنتظم الشخصيّات المُثقّفة المُطالبة بالتغيير، ضُمن لوائح مُوحّدة وقويّة، فإنّ فرص تحقيق الخُروقات الكبرى والجذريّة في الإنتخابات المُقبلة، لن تكون كبيرة، لأنّ تغيير القانون الإنتخابي صعب وفق التوازنات الحاليّة، ولأنّ القوى الحزبيّة لا تزال تتمتّع بالحد الأدنى من التأييد الشعبي، علمًا أنّ الكثير من هذه الأحزاب لا يزال يعتبر أنّه براء ممّا حصل ويحصل، وأنّ الصُعوبات وحتى المآسي الحاليّة ناجمة من سوء تصويت الرأي العام في السابق، ويدعو إلى أن يُصوّب الناس تصويتهم بشكل أفضل في المُستقبل!.

في الختام، الأكيد أنّ الكثير مَطلوبٌ من الحُكومة الجديدة، لأنّ الخروج من النفق المُظلم يتطلّب جُهدًا إستثنائيًا من قبل السُلطة التنفيذيّة، لا سيّما لجهة وقف الهدر، والشروع بالإصلاحات، وإستقطاب الدعم المالي الخارجي بسرعة. ولكن المَطلوب من المُحتجّين يفوق ذلك أهمّية، لا سيّما لجهة الوُقوف بوجه أيّ صفقة إقتصاديّة أو ماليّة يُمكن أن تحصل في المُستقبل، والضغط على القطاعات المُهترئة كافة لتحفيز الإنتاج ولتسريع ورش الإصلاح، والإضاءة على مكامن الهدر و​الفساد​ في أروقة ​الدولة​ للبدء بطريق الألف ميل للمُحاسبة. فهل ستسمح الإنقسامات السياسية والطائفية والمذهبيّة بذلك، أم أنّ التحرّكات الشعبيّة ستتحول إلى مُجرّد وسيلة للتدمير الذاتي غير الواعي؟!.