لم اكن اتخيل نفسي اكتب مقالاً اشيد فيه بما قد يقوم به يوماً الرئيس الاميركي الحالي ​دونالد ترامب​، ولم اكن اتوقع ايضاً ان يحوّل كلامه الى افعال، ولكن تبيّن انني كنت على خطأ وان العرب وللاسف، باتوا يعيشون على هامش الحياة ولا يصلحون بالنسبة الى الخارج سوى لدفع الاموال.

قبل مدّة، قال ترامب انه لن يبقي على القوات المسلحة الاميركيّة في الدول التي تحتاج الى "حماية"، ما لم تكن هذه الدول نفسها مستعدّة لدفع مبالغ مادّية كبيرة لقاء هذا الوجود. وفي حين اشار الرئيس الاميركي الى انه قصد البعض من دول ​الشرق الاوسط​ وآسيا و​اوروبا​، فقد ركّز بشكل واضح على الدول العربيّة وفي مقدمها ​السعودية​ التي سمّاها بالاسم. لم تنتفض النخوة العربيّة والشهامة ازاء هذا الكلام، ومرّ كغيره من الكلام العالي السقف الذي اطلقه الرئيس الاميركي الحالي واصاب بسهامه العاهل السعودي والاسرة الحاكمة وغيرهما من الدول العربيّة. في مقابل هذا الكلام، كان الكثيرون، وانا واحد منهم، يقول بأن هذا الكلام مجرّد اثبات وجود بالنسبة الى شخص يحضّر نفسه لخوض ولاية جديدة تحت ظروف داخليّة ضاغطة ووسط نقمة خارجيّة على سياساته، ولكن ما قرأته منذ ايام قليلة حول دفع السعودية مبلغ 500 مليون دولار كدفعة اولى مقابل بقاء القوات الاميركية على اراضيها، قلب كل المفاهيم ورأساً على عقب، وفرض عليّ وجوب احترام ترامب كرئيس وضع مصلحة بلاده قبل كل الاعتبارات ونجح في تأمين مبالغ ماليّة ضخمة اضافيّة الى الخزانة الاميركيّة.

ليس خافياً على احد مقدار الاموال التي تدفعها الدول العربيّة للولايات المتّحدة بشكل رئيسي ودول كبرى اخرى مقابل صفقات اسلحة واستشارات امنيّة وصناعيّة وغيرها، وفي الواقع كان من الصعب على أيّ مخلوق ان يصدّق انه بمقدور انسان ان يزيد على هذه الاموال كونها كبيرة الحجم في الاصل. ولكن، دونالد ترامب فعلها، وها هو يسحب الاموال الاضافية، تحت ذريعة الخطر ال​ايران​ي الّذي يترقّب على الابواب ويتهيّأ لغزو الدول العربيّة وفي مقدّمها ​دول الخليج​. تمكّن الرئيس الاميركي من تحويل ايران التي يسوّق ليل نهار على انها دولة عدوّة ويستهدفها سراً وعلناً، الى أوزّة ذهبيّة تبيض الذهب الّذي يستغله خير استغلال، وكل ذلك دون ان يريق نقطة دم واحدة من دماء الجنود الاميركيين، انها بالفعل حنكة ما بعدها حنكة. لقد استطاع ان يفهم العقليّة العربيّة بقدر اكبر من أيّ رئيس اميركي "حكيم" سبقه، وخطا خطوة ثابتة في تأمين الاموال السهلة من خلال وضع سابقة تتمثّل بتلقّيها مقابل "الحماية" التي هي بالدرجة الاولى سيّاسية ومعنويّة اكثر منها عمليّة وعسكريّة. من الصعب تخيّل أيّ رئيس اميركي مقبل سيضحّي بالملايين إن لم نقل بالمليارات من الدولارات عبر التخلي عن هذه السياسة التي لا تكلّف الاميركيين شيئاً سوى التواجد على ارض عربيّة فقط، بكامل الصلاحيّات التي يحلمون بها ومع كل الميزات الضخمة التي تترافق مع هذا الانتشار.

هنيئاً لترامب وللاميركيين هذا الانجاز، وأسفي، كل الاسف، ان يكون العرب ضحيّة هذه السياسة التي تمعن في إظهارهم كشعب أدنى مرتبة وقابل للخضوع دون تفكير او تردّد، وتضعهم في موقف دافع للاموال فقط لا غير، بدل ان يكونوا اكثر فاعليّة في ​المجتمع الدولي​، وان تكون كلمتهم مسموعة وان يكون وقعها كبيراً على كل من يسمعها. انما الحال يفيد بأن هذا الواقع باقٍ لفترة غير قصيرة، وان افادة الاميركيين وغيرهم لن تتوقف او تنحصر في زمان ومكان معيّنين، قبل استنفاد كل الاموال و​النفط والغاز​، وعندها فقط يمكن الحديث عن تحرّر العرب، مع خشية من عودتهم الى ما كانوا عليه قبل عقود من الزمن...