أما وقد شكلت حكومة الرئيس ​حسان دياب​ وبدعم من الأكثرية النيابية، وجاء وزراؤها من التكنوقراط، فإنّ السؤال التالي الذي يطرح، ما هو برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي الذي ستعتمده لإخراج ​لبنان​ من أزماته؟

انّ المسألة الأساس إنما تكمن في طبيعة السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي يؤمن بها رئيس ​الحكومة​ ووزراؤه الاختصاصيون، هل سيستجيبون لوصفات الإصلاح التي يطرحها ​صندوق النقد​ ومؤتمر «سيدر» للدول المانحة كشرط مسبق لتقديم ​القروض​ الميسّرة للبنان؟ أم سيرفضون ذلك، ويلجأون إلى اعتماد إصلاحات وطنية والاتجاه إلى تنويع الخيارات الخارجية بما يتماهى مع هذه الإصلاحات الوطنية التي تنأى بلبنان عن الارتهان للمؤسّسات المالية الدولية، التي يستخدمها الغرب، بقيادة ​أميركا​، سلاحاً لإخضاع الدول وفرض التبعية والهيمنة عليها؟

إنّ لكلّ خيار نتائج وتداعيات…

1 ـ اللجوء إلى اعتماد الخيار الأول، أيّ الاستمرار بالسياسات الريعية، سيقود إلى مفاقمة الأزمات وإغراق لبنان بالمزيد من الديون وفوائدها المراهقة، وبالتالي الخضوع أكثر لسياسات الغرب الاستعماري، التي تتعارض مع ثوابت وخيارات لبنان الوطنية…

2 ـ أما اللجوء إلى الخيار الثاني، فإنه يقود إلى وضع لبنان على سكة الخروج من أزماته، وحفظ إنجازاته وثرواته الوطنية، وتحقيق استقلاله الاقتصادي، عبر مغادرة السياسات الريعية، واعتماد سياسات تقوم على دعم الإنتاج، والحصول على ​مساعدات​ لا تغرق لبنان بالديون وتسلبه قراره الوطني، أو تخضعه للهيمنة الأجنبية، وهو ما يتطلب إرادة وطنية لدى الحكومة بأخذ قرار الاتجاه شرقاً، باعتباره الخيار الطبيعي والمتاح أمام الحكومة لإيجاد الحلول لكلّ المشاكل الاقتصادية والخدميّة المزمنة، الأمر الذي يجنّب لبنان مواصلة الغرق في الحفرة التي نجمت عن السياسات الريعية والاستدانة..

لماذا التأكيد علي ذلك؟

اولاً: إنّ التأكيد على هذا الأمر يعود إلى أنّ ما صدر عن الرئيس دياب و​وزير المالية​ يؤشر إلى أنّ هناك رهاناً على احتواء ​الأزمة​ والحدّ منها، من خلال السعي لحصول الحكومة على مساعدات وقروض مالية ميسّرة من «سيدر» ودول الخليج، ومعروف انّ الدول التي شاركت في «سيدر»، ومنها دول خليجية، اشترطت تقديم القروض بتطبيق حزمة من الإصلاحات، اذا ما اعتمدت ستقود، بعد انتهاء المفعول المؤقت للقروض، الى مفاقمة الأزمة ليصبح لبنان أمام وضع أسوأ مما كان عليه، سمته، دين أكبر، وفوائد أكثر، وازدياد في عجز الموازنة، وتراجع في موارد الدولة، بعد تخصيص مرافئها وقطاعاتها الخدمية، التي كانت تغذي الخزينة بإيرادات هامة، مثل قطاع الخلوي والمطار والمرافئ البحرية، المطروح تخصيصها من ضمن شروط «سيدر» وصندوق النقد الدولي…

ثانياً: إنّ قبول الحكومة بشروط «سيدر» وصندوق النقد سوف يعني الإمعان بمواصلة السياسات نفسها التي أنتجت الأزمة، في حين انّ هناك خياراً بديلاً متاحاً أمام الحكومة للخروج من الأزمة، وهو قبول المساعدات غير المشروطة التي عرضتها الصين وروسيا و​الجمهورية​ الإسلامية الإيرانية، لبناء معامل الكهرباء و​النفايات​ وحلّ مشكلة الطرقات بإقامة شبكة من سكك الحديد، والأنفاق، والطرقات، وتطوير المرافئ البحرية والجوية، وإصلاح مصفاة النفط لاستيراد النفط والغاز مباشرة من الدول الصديقة، بأسعار تفاضلية… فالصين مثلاً تقدم عروضاً لاستثمارات في البنية التحتية، لتصبح قادرة على تخديم شركاتها في إعادة إعمار سورية، وليكون لبنان محطة مهمة في مشروع طريق الحرير، الذي قطعت فيه الصين خطوات كبيرة تحت مسمّى «الحزام والطريق»… وأهمية ما ستقوم به الصين من مشاريع، تسهم في النهوض ب​الاقتصاد اللبناني​، تكمن في أنها لا تحمّل لبنان أعباء ديون جديدة، لأنّ المشاريع ستنفذ وفق صيغة .B. O. T مثل إنشاء سكك الحديد، وشق نفق ​شتورة​، وبناء مصفاتين للنفط، ومعامل لتوليد الكهرباء، وإقامة ​السدود​ إلخ…

ثالثاً: إنّ خيار التوجه شرقاً يسهم في إيجاد أسواق هامة لتصدير الإنتاج اللبناني الزراعي والصناعي، مما سيؤدّي الى زيادة النمو وتعديل الخلل الحاصل في الميزان التجاري، واستطراداً توسع الإنتاج، وإيجاد فرص العمل، وتنشيط الحركة الاقتصادية والسياحية في البلاد، الأمر الذي يحدّ من الأزمة الاجتماعية وهجرة ​الشباب​ إلى الخارج…

انّ سياسة النأي بالنفس التي ستعتمد من قبل الحكومة، يجب أن تبنى على أساس أن يقرّر لبنان علاقاته وخياراته الاقتصادية مع جميع الدول انطلاقاً من مصالحه، فيختار التعاون الاقتصادي مع أيّ دولة، إذا كان هذا التعاون يخدمه ويحقق مصالحه، ويرفض هذا التعاون، اذا كان سيلحق الضرر بمصالحه..

فهل ستنجح الحكومة في انتهاج سياسات اقتصادية مستقلة، فتقبل المساعدات الاقتصادية والمالية غير المشروطة التي تخدم مصلحة لبنان، وترفض في المقابل القروض المشروطة التي تضرّ بمصالح لبنان..

إنه السؤال الحيويّ والهامّ الذي ستتضح الإجابة عليه من خلال طبيعة البرنامج، الاقتصادي والمالي الإنقاذي، الذي ستعتمده الحكومة ويكون دليل عملها، وايضاً من خلال قرارها بتنويع، أو عدم تنويع خيارات لبنان الاقتصادية مع الدول العربية والأجنبية…