مع إعلان ولادة حكومة حسّان دياب الأولى، أو حكومة "اللون الواحد" كما يحلو لكثيرين توصيفها، ساد اعتقادٌ بأنّ أول "الإنجازات" التي ستنجح هذه الحكومة في تحقيقها، يكمن في "توحيد" الجبهة المضادّة لها، بما يعنيه ذلك من إعادة إحياء لمعسكر الرابع عشر من آذار، الذي تموضعت مختلف مكوّناته بوضوحٍ في خانة المعارضة.

لكنّ شيئاً من ذلك لم يحصل، ليتبيّن وجود خلافاتٍ بين أطياف المعارضة المفترضة، تتفوّق ربما على الخلافات بينها وبين الحكومة، خلافات تجلّت بوضوح في ​جلسة مجلس النواب​ لمناقشة الموازنة، حيث انقسمت المعارضة على نفسها، فأمّن بعضها النصاب، وقاطع بعضها الآخر، وسط "مزايدات" دخل الجميع على خطّها بشكلٍ أو بآخر.

وإذا كانت بدعة "المعارضة على القطعة" ظهرت لتبرّر التفاوت في المقاربة السياسية بين قوى المعارضة المفترضة، فإنّها لم تنجح في إخفاء "العجز" الذي باتت تعانيه هذه المعارضة، التي لا تبدو قادرة على تجاوز مناكفاتها، ولو وفق قاعدة "الغاية تبرّر الوسيلة"، الأمر الذي يحوّل دياب مرّة أخرى، إلى "الرابح الأكبر" وسط كلّ هذه المعمعة...

"معارضة على القطعة"؟!

على طريقة "التحالفات على القطعة" التي طبعت ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة التي شهدها لبنان، ينتشر مصطلح "المعارضة على القطعة" هذه الأيام، ليس من بوّابة الإيحاء بوجود معارضة "بنّاءة" للحكومة، تسعى للحكم على أدائها، ولكن قبل ذلك، من بوابة محاولة تبرير عجز المعارضة عن الاتحاد خلف جبهةٍ واحدةٍ، متماسكةٍ ومتينة.

هكذا، تفاوت تعامل قوى المعارضة المفترضة مع كلّ الاستحقاقات التي واجهتها حتى اليوم، ليصل الأمر في بعض الأحيان إلى حدّ "التناقض" الكامل، وهو مسارٌ بدأ بالظهور منذ ​الاستشارات النيابية​، حين ارتأت بعض القوى الامتناع عن تسمية أحدٍ لتكليف الحكومة، فيما فضّل البعض الآخر تسمية شخصيّاتٍ أخرى على غرار السفير ​نواف سلام​ الذي سمّته كتلتا "​اللقاء الديمقراطي​" و"الكتائب"، أو حليمة قعقور التي سمّتها النائب ​بولا يعقوبيان​.

وتكرّر التفاوت نفسه في طريقة تعامل قوى المعارضة مع مسار تأليف الحكومة، فكانت مقاطعة "فرديّة" من "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" للاستشارات غير الملزمة التي أجراها دياب، قبل أن يدخل على خط الاستشارات من خلف الكواليس، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى تسمية شخصيّةٍ مقرّبةٍ منه، أو غير مستفزّة له بالحدّ الأدنى، هي الوزيرة ​منال عبد الصمد​. وفي مقابل "المقاطعة الاشتراكية"، كان "انفصامٌ" يظهر حتى داخل الحزب الواحد في مقاربة التأليف، بين من ارتأى "تصديق" وعود دياب، ومنحه فرصة لتحقيقها، ومن اختار التصويب عليه، من دون الاكتراث بالنتيجة.

بيد أنّ كلّ ما سبق يمكن وضعه في كفّ، وما حصل على هامش جلسة مجلس النواب الأخيرة، والتي خُصّصت لمناقشة الموازنة يوضع في كفٍّ آخر بالمُطلَق. هنا، لا يمكن اختزال الموضوع بـ"تفاوت" في القراءة السياسية فحسب، خصوصاً أنّ المعارضة كانت قادرة على تعطيل الجلسة عن بكرة أبيها، إلا أنّها تولّت تأمين النصاب، وفق قواعد لم تبدُ مفهومة، ولا تفسّرها سوى "تفاهمات" قد تكون أبرِمت خلف الكواليس.

وفي هذا السياق، لا يزال موقف كتلة "المستقبل" مثلاً عصيّاً على الفهم والاستيعاب، كيف لا والكتلة جاهرت بكون الجلسة "غير دستورية"، كما أكّد النائب سمير الجسر، من عقر دار البرلمان، ولكنّها لم تجد ضيراً في تأمين نصابها، ومنحها الشرعيّة المطلوبة، وبالتالي تمرير الموازنة، مع تسجيل مفارقةٍ أخرى تمثّلت في التصويت ضدّها، علماً أنّها صنيعة الحكومة السابقة، لا الحالية.

خلافات مستعصية!

وكأنّ كلّ المفارقات السابقة غير كافية، جاء "تبرير" رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري ليعزّز صورة المعارضة "المهزوزة"، إذ قال إنّ كتلة "المستقبل" لن تكون أداة للمقاطعة وتعطيل المؤسّسات الدستورية، وإنّها قامت بواجبها ولم تتهرّب من مسؤوليّاتها، لكنّه لم يكتفِ بذلك، بل أضاف كلاماً مفاده أنّ "هذه مدرسة رفيق الحريري ولن نحيد عنها مهما اشتدّت الصعاب وتكاثرت من حولنا أبواق المزايدين".

ولا شكّ أنّ الحريري لم يقصد بـ "أبواق المزايدين" هنا سوى من يفترض أن يكونوا شركاءه في معارضة الحكومة، وبالتحديد أولئك الذين اختاروا مقاطعة جلسة مناقشة الموازنة، وعلى رأسهم حزبا "القوات" و"الكتائب"، بالإضافة إلى عددٍ من النواب المستقلّين. وبذلك، يكون الرجل قد فضح "الخلافات المستعصية" الدائرة على ما يبدو بين المعارضين أنفسهم، بدل أن تنصبّ الجهود على الاتفاق فيما بينهم على آليةٍ مشتركةٍ لمواجهة الحكومة وأجندتها.

ويبدو أنّ الحريري يعاني مع شركائه في المعارضة، ما كان يعانيه معهم تماماً حين كانوا جزءاً من حكوماته، لجهة "المزايدات" التي يرى فيها تصويباً مباشراً عليه قبل غيره، وهو ما جعل أصلاً علاقته مع "الكتائب" أولاً، ومن ثمّ "القوات" تهتزّ، بل تصل إلى حدود القطيعة، علماً أنّ ثمّة من يردّ كلّ ما يحصل اليوم على جبهة "المعارضة"، إلى تحميل الحريري هؤلاء "الشركاء" تحديداً مسؤولية إقصائه عن السلطة، بعدما رفضوا تسميته ل​رئاسة الحكومة​ مجدّداً، ما عرّاه من "الميثاقية ​المسيحية​" التي كان ينشدها.

لكن، بموازاة "واقعيّة" مثل هذه القراءة، ثمّة من يتحدّث عن خلافاتٍ "أعمق" لا تخلو من "التشكيك" داخل قوى المعارضة نفسها، إذ هناك من يرى في "تكتيك" الحريري، شأنه شأن رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​، ما يمكن تصنيفه بـ"التواطؤ الضمني" مع أهل السلطة، وكأنّهما يريدان حجز "مكانٍ" لهما في الخريطة السياسية المقبلة، خصوصاً أنّ همساً غير بريء لا يزال يدور في الأروقة السياسية عن أنّ حكومة دياب لن تخدم سوى لمرحلةٍ انتقاليّةٍ قصيرة، قبل إعادة خلط الأوراق من جديد، وهو ما يتطلب من الحريري سلوكاً "غير صدامي" مع قوى لا يزال يعتقد أنّ "مساكنتها" أسهل عليه من "التعايش" مع شركائه في المعارضة!.

"فرصة ذهبية"

قد يكون انتقاد الحريري لـ"أبواق المزايدين"، في غمزٍ من قناةزملائه في المعارضة، الإشارة الأكثر وضوحاً إلى الخلافات الدائرة بين قوى المعارضة المفترضة.

لكنّ هذا الانتقاد قد لا يكون الوحيد، فحزب "الكتائب" مثلاً لا يوفّر الحريري وغيره من تصريحاته اليوميّة، ومثله يفعل "القواتيون" الذين لا ينفكّون يذكّرون بأنّهم كانوا أول "الناصحين" بضرورة تسليم السلطة لاختصاصيّين مستقلّين، في وقتٍ يبدو حرص "الاشتراكي" اليوم على أنّ وجود "أي حكومة" أفضل من الفراغ، وكأنّه "تصويب مباشر" على الأداء المعارض للحكومة، قبل الموالي لها.

وإذا كان كلّ ذلك دليلاً واضحاً على أنّ العودة إلى زمن "14 آذار" لم يعد خياراً مطروحاً، ولو كرّره بعض "الغيارى" بصورة يوميّة، فإنّ الأكيد يبقى أنّ حكومة دياب يجب أن تكون ممتنّة لمعارضين يلتهون بخلافاتهم، ويتناسون "الجوهر" الذي يفترض أن يوحّدهم، ما يمنحها "فرصة ذهبية" للعمل، بعيداً عن "شللٍ" كان يمكن أن تشعر به، لو اصطدمت بمعارضةٍ حقيقيّةٍ، تتقن "فنّ" المعارضة وآدابها!.