قد تكون المرّة الأولى منذ سنوات طويلة التي تجذب فيها جلسةٌ نيابيّةٌ مخصّصةٌ لمنح الثقة للحكومة الأنظار في ​لبنان​، بعدما تحوّلت هذه الجلسات إلى نوع من "الماراثون" المملّ والمعلَّب مسبقاً، والخالي من أيّ مفاجآتٍ أبعد من بعض الكلمات "الاستعراضية" التي لا تقدّم ولا تؤخّر شيئاً في المعادلة.

ولعلّ نقاط الاختلاف هذه المرّة، والتي سمحت بوجود معارضةٍ للحكومة في "سابقةٍ" من نوعها، من شأنها إضافة بعض "التشويق" إلى ​جلسة الثقة​ بحكومة حسّان دياب، والتي تبقى كلّ الخيارات والسيناريوهات واردة فيها، وإن كان ثمّة شبه إجماع على أنّ هذه الثقة "مضمونة" سلفاً، بغضّ النظر عن مدى "هزالتها".

وفي وقت تكثر التكهّنات حول موقف الشارع من الجلسة، والتحرّكات التي يمكن أن ينظّمها في محاولةٍ لتعطيلها، ثمّة من يذهب أبعد من ذلك، ليطرح تساؤلاتٍ عن موقف المعارضة النيابيّة منها، وما إذا كان خيار "المقاطعة" وارداً لديها، والتبعات المحتملة لذلك على الجلسة، ولكن أيضاً على ​الحكومة​ ككلّ...

الثقة "مضمونة"؟

ليس خافياً على أحد أنّ قوى الأكثرية النيابية تتصرّف على أساس أنّ الثقة بحكومة دياب "مضمونة"، وبالتالي فهي تتعاطى مع جلسة الثقة المُنتَظرة ببرودةٍ تكاد تشبه في جانبٍ كبير البرودة التي كان يتمّ التعاطي معها مع حكومات "الوفاق الوطني" السابقة، باعتبار أنّ الجلسة ستنتهي بمنح الحكومة الثقة، شاء من شاء وأبى من أبى.

ويعود "ارتياح" هذه القوى بالدرجة الأولى إلى كون الحكومة حائزة سلفاً على "ثقة" جميع الأفرقاء الذين سمّوا دياب لتكليف الحكومة، بمُعزَلٍ عن الخلافات الكبيرة بين هذه القوى، بل بمُعزَلٍ حتى عن طبيعة ​البيان الوزاري​ وشكله، خصوصاً في ظلّ وجود "جامعٍ مشتركٍ" لهم جميعاً، يتمثّل في "​حزب الله​"، والذي لا يزال يمون عليهم في مثل هذه الاستحقاقات.

أكثر من ذلك، لا شيء يدعو للشكّ بإمكان حصول "غدرٍ" من أيّ طرفٍ من قوى الأكثريّة، نظراً لكون مسار ​تأليف الحكومة​ أثبت "استرضاء" جميع الأفرقاء، باستثناء "​الحزب السوري القومي الاجتماعي​" الذي سبق أن أعلن نيّته منح الحكومة الثقة على رغم خروجه أو إخراجه منها، علماً أنّ القوى التي حاولت "تحييد" نفسها عن التركيبة الحكومية في محطّاتٍ عديدةٍ، أبدت النيّة نفسها، من باب وجوب إعطاء الحكومة "فرصتها" لتحقيق الإنقاذ الذي يصبو إليه جميع اللبنانيين.

وانطلاقاً من كلّ ذلك، يعتقد العارفون أنّ ما سرى على جلسة ​الموازنة​ في ​مجلس النواب​ لن يسري على جلسة الثقة، أولاً لأنّ الجدل ​الدستور​ي الذي دار حول "شرعية" الجلسة الأولى، والذي دفع البعض حتى من الأكثرية النيابية، إلى "مقاطعتها"، لا ينطبق في حال جلسة الثقة، وثانياً لأنّ تغيّب بعض النواب عن جلسة الموازنة، منعاً للتصادم مع الناس أو لأسبابٍ أخرى، لن يكون بين "الخيارات" المطروحة في جلسة الثقة، التي سيسبقها "استنفار" لقوى الأكثرية لضمان حضور جميع النواب، خصوصاً أنّ الثقة المتوقعة "هزيلة" أصلاً، وبالتالي لا شيء يبرّر "إضعافها" أكثر.

المقاطعة خيار؟!

وإذا كانت الثقة "مضمونة"، ولو كانت هزيلة وفق كلّ التوقّعات والتقديرات، فإنّ السؤال الذي يُطرح ليس عمّا إذا كان يمكن لبعض قوى المعارضة، على غرار "​كتلة المستقبل​" أو "​اللقاء الديمقراطي​"، أن تمنح الحكومة الثقة، بقدر ما هو عمّا إذا كانت ستلجأ إلى سلاح "المقاطعة" لفرط عقد الجلسة، خصوصاً إذا ما اختار الشارع أن يجدّد "ثورته" على هامشها، مكرّراً سيناريو تعطيل ​الجلسة التشريعية​ في وقتٍ سابق.

في المبدأ، لا يُعتقَد أنّ هذا الخيار مطروحٌ بجدية، ليس لأنّ المتوقَّع أن يسير رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ بالجلسة بالنصاب المطلوب دستورياً، والذي يمكن أن تؤمّنه قوى الأكثرية وحدها، بعيداً عن جدل "الميثاقية" في حال قاطعها "​تيار المستقبل​"، باعتبار أنّ الأخير لا "يحتكر" التمثيل السنّي داخل مجلس النواب، ولكن لأنّ "المستقبل" نفسه، كما "الاشتراكي"، سبق أن أعلنا مواقف "مهادنة" للحكومة، لجهة أنّ وجودها يبقى أفضل من الفراغ كما قال رئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" النائب السابق ​وليد جنبلاط​، فضلاً عن كونهما يسعيان للحفاظ على العلاقة القوية مع رئيس البرلمان، وهو ما تجلى أصلاً في جلسة الموازنة، التي لم يكن نصابها ليؤمَّن من دونهما.

وفي حين ثمّة من يعتقد أنّ باقي قوى المعارضة تشارك "المستقبل" و"الاشتراكي" موقفهما في المبدأ، من حيث الاعتقاد بوجوب المشاركة في الجلسة، خصوصاً أنّ رفع عدد حاجبي الثقة عن الحكومة قد يزيد من وقع "إضعافها" بعكس الغياب، فإنّ القرار النهائي يبقى برأي كثيرين "مرهوناً" بموقف الشارع والتحرّكات المفترضة له، باعتبار أنّ هذه القوى تحرص على "تحييد" نفسها عن المواجهة، بل إظهار نفسها وكأنّها خلف الشارع لا أمامه، فإذا رفض الشارع انعقاد الجلسة و​قطع الطرقات​ في سبيل ذلك، لا بدّ من الاستجابة لصوته، ومقاطعة الجلسة، بما يحصر "المواجهة" بين الشارع وقوى "اللون الواحد" التي شكّلت الحكومة، خلافاً لإرادته وشروطه.

لكن، ثمّة هنا من يطرح أيضاً العديد من التساؤلات، إذ ما الذي يمكن أن "تجنيه" مثل هذه المقاطعة، سوى خلق "إشكاليّة" دستوريّة جديدة تتعلق بحكومةٍ لم تستطع أن تمثل أمام البرلمان لتحصل على ثقته وفقاً للدستور؟ وأليس من الأولى، إزاء ذلك، إعطاء هذه الحكومة "فرصتها"، من دون منحها "شرعية مطلقة"، ولو على طريقة "لحاق الكاذب حتى باب الدار"، بمعنى وضعها أمام امتحان الإيفاء بالتزاماتها، التي تُكرَم أو تُهان على أساسها، وضمن فترة "سماح" تُقدَّر بالأسابيع لا الأشهر؟!

مجرد "تفصيل"!

لا شكّ أنّ كلّ ما يحيط بجلسة الثقة المرتقبة فريدٌ من نوعه، ويختلف عن كلّ ظروف وحيثيّات جلسات الثقة السابقة، التي كانت تتحوّل إلى "بازار انتخابي" يستعرض من خلاله النواب مقدراتهم الكلاميّة، ويزايدون على بعضهم، طمعاً بأصوات الناخبين.

الصورة لن تكون هذه المرّة نفسها، ولو أنّ ​الانتخابات النيابية​ المبكرة قيد التداول في العديد من الأوساط، فالثقة هذه المرّة، ولو كانت مضمونة، هزيلة، والشارع بالمرصاد، ومن خلفه المعارضة التي لا تزال عاجزة عن استرضائه بشكلٍ أو بآخر.

لكنّ الأكيد أنّ جلسة الثقة، بمُعزَلٍ عن كلّ هذه الحيثيات، لن تكون أكثر من "تفصيل" في ​الأزمة​ اللبنانية، أزمة لم تعد "المسكّنات" ولا "الاستعراضات" تقوى على حجبها عن الأنظار، فالمطلوب أكثر من ذلك بكثير، ومن المعارضة قبل الموالاة!.