لم يكن يعلم "ثوّار" الحراك أنّ نبض الشارع سيتراجع تدريجياً، بعد تظاهرات بلغت ذروتها في الأسابيع الأولى لإنطلاق ​الحراك الشعبي​ في لبنان. عاشوا فرضية "الحسم" وظنّوا أنهم قلبوا طاولة السُلطة في شهري تشرين ثم مطلع كانون الأول، لكن طبيعة النظام الطائفي كانت أول جدار صدّهم، فأحبط جوهر مشروعهم التغييري، ومنعهم من إستكمال مسارهم "الثوري".

صحيح أن خطوات سياسية إستيعابية جرى إعتمادها من كلّ إتّجاه، لكن الوقت هو الذي فرض مساكنة حاصلة الآن، سرعان ما إتّضحت بين حكومة جديدة عاجزة عن الإنقاذ لغياب الدعم المالي، وحراك أُصيب بالترهل جرّاء عدم قدرته على فرض أيّ تغيير جوهري. كان من المفترض أن يشارك ممثلو الحراك في تركيبة الحكومة، لكن تشتّت شملهم، وتنوّع أجنداتهم، وسباقهم لقتل الناطور السياسي قبل قطف العنب الوطني، كل ذلك، أبعد مشاركتهم في قيادة البلد، وأحبط أعداداً كبيرة من اللبنانيين الذين تظاهروا، وراهنوا على فعالية الحراك الحقيقي لفرض تغييرات جوهرية. أين أصبح زخم الحراك؟ يردّد لبنانيون كلاماً يفيد أنه إنتهى. لا يمكن الجزم بذلك، لأن النقمة الشعبية على الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية تزداد ضمناً. لكن لا يعني ذلك أنّ الحراك سيستنسخ نفسه لاحقاً، بسبب إختلاف الرؤى بين مجموعاته اولاً، وعدم الإعتراف بأن التغيير الحقيقي يبدأ في لبنان من نسف النظام الطائفي والدخول في مساحة ​الدولة المدنية​، وإقرار قانون إنتخابي جديد على أساس لبنان دائرة واحدة، والاّ سيبقى المشهد الإحتجاجي ضمن أطر الخطوات الشكلية لا غير.

كأنّ الأولوية باتت الآن عند بعض المجموعات هي ملاحقة وزير او نائب في مطعم، سواء عبر شتمه أو دفعه لمغادرة المكان، أو تلاوة بيان إستعراضي في مؤسسة رسمية. أين تخدم تلك التصرفات أهداف الحراك الشعبي الحقيقي؟ ماذا تُحقق سوى إستعراض العضلات الوهمية؟ هي تُكسب المُستهدَف تعاطفاً شعبياً، بدليل ما حصل في الأيام الماضية.

تغيب الإستراتيجية عند "الثوريين" وتحضر تكتيكات لا طعم لها ولا نكهة، لا وطنياً ولا أدبياً، ولا سياسياً. يجب أن يعترف روّاد الحراك بأن تصرفاتهم الحالية باتت عاجزة عن إستحواذ ثقة من ناصرهم سابقاً. قد يكون الوقت الآتي أكثر من مناسب كي يراهنوا عليه في كسب تعاطف اللبنانيين المعوزين نتيجة تدهور الوضعين الإقتصادي والمالي، ومعاناة الناس من الأزمة المعيشية التي تكبر ككرة ثلج تتدحرج نزولاً. لكنّ المعطيات اللبنانية الحالية تُفيد بأنّ ​الحكومة الجديدة​ فرضت المساكنة مع الحراك نتيجة قلّة حيلته، في ظل استفادة الأولى من قرار منع الدخول في الإنهيار، وخشية اللبنانيين من فوضى أوجدتها الإحتجاجات والمواجهات و​قطع الطرقات​، ليُصبح الجميع في مراوحة قائمة عند حدود البقاء في الأزمة والتعايش معها.

فلنعترف أنّ الحكومة لن تستطيع إنقاذ لبنان، لأسباب خارجة عن قدرتها، بغياب الدعم المالي، وعدم وجود مقدّرات إقتصادية تنهض بالبلد. هنا لب المشكلة الأساسي. لا يمكن المراهنة على أوهام. لكن ذلك لا يعفيها من مسؤولياتها في وقف مزاريب الهدر في مؤسسات وإدارات الدولة، والمضي في المحاسبة ومقاضاة المتورطين ب​الفساد​، لكسب تأييد الرأي العام قبل توحيد الجهود اللبنانية في مواجهة الأزمة.

ولنعترف أيضاً ان الحراك صار هزيلاً بشكله الحالي وخطواته الإحتجاجية التي لا تحظى بتأييد شعبي واسع. لا يمكن الإستناد فقط إلى مشاهد التظاهرات الشعبية في الأسابيع الأولى. لا تكفي وحدها. لم ينل معظم قياديي الحراك الحاليين تأييد ولا رضا الشعب اللبناني الذي كان ينتظر خريطة طريق وطنية واقعية مُنتجة، لا إستعراضات إعلامية، أو توظيف أصوات الناس في حسابات ضيّقة، يتداخل فيها الداخلي بالخارجي، والأمني بالسياسي.