يُعلِن هذا الأَحدُ بدءَ الزَّمنِ الخُشوعيّ المُسمَّى في الكنيسة الأرثوذكسيّة "زمن التّريودي"، وهي كلمة يونانيّة تعني ثلاثَ قصائد وتسابيح.

هو زمنٌ مليءٌ بصلواتٍ خُشوعيّة تدعو ​الإنسان​َ إلى الاتِّضاع والتّوبة.

في هذا الزَّمن ثلاثُ مراحل: فترةُ تهيئة، ثمَّ الصّوم الأربعينيّ، فالأسبوع العظيم.

فترة التّهيئة تمتدُّ لِشهر وتتضمّن أربعةَ آحادٍ هي: الفرّيسي والعشّار، الابن الشّاطر، الدّينونة(مرفع اللحم)، الغفران(مرفع الجبن). ويأتي سبت الرّاقدين(الأموات) قبل أحد الدّينونة مباشرةً.

هذا كلّه مِن ناحية التّرتيب، ولكنّه يتطلّب تخشّعًا حقيقيًّا مِن جهة المؤمن لكي يأتي بثمارٍ في حياته، فينضمَّ إلى السّالكين درب العبور مِن مستنقعات الخطيئة ليلتحق بالمُرَنّمين في ديار الرّب.

نحن مدعوون بخاصّةٍ في هذه الفترة إلى الانتقال إلى الحالة النّورانيّة التي تتتوّج بسبت النّور العظيم الذي يسبق يوم ​الفصح​ المجيد. وهذا الفصح يعلن بدوره بداية زمن خمسينيّ يمرّ بالعنصرة ويختتم بأحد جميع القدّيسين، على أمل أن ننتمي جميعنا إلى قافلة الظّافرين إن جاهَدنا الجهاد الحسن.

مسيرتنا في هذه ​الحياة​ رحلةٌ، وتصل إلى خواتيمها في لحظة العبور مِن هذا الجسد.

كلّ قلق الإنسان منذ لحظة وجوده هو هذا العبور. فلاسفة كثر بحثوا ولم يفقهوا. أساطير تكلّمت على الضّفة الأخرى وتعدّدت الرّوايات. في بلادنا مثل شعبيّ: "وما أدرانا، فهل ذهب أحد وأخبر"؟.

معيب أن نتبنّى هذا القول. يسوع ذهب وأخبرنا. القدّيسون أيضًا. لا بل أكثر، القدّيس قبل أن يعبر هو عابر لأنّه مارس التّوبة المستمرّة، ويعرف عن يقين أن العبور حياة، لأن ​المسيح​ هو الحياة.

هذا ليس بكلام فلسفيّ، بل حقيقة وحقّ. شهودنا كثر ومستمرّون.

ولكن كيف يصبح هذا العبور حياة بالمسيح؟ الجواب يبدأ مع مثل هذا الأحد.

فرّيسي وعشّار صعدا إلى الهيكل ليصلّيا. الفرّيسيّ افتخر بذاته أمام الله قائلًا: "لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ"، "أَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ"(لوقا ١٠:١٨-١٤). الأوّل سقط بتعجرفه وعبادته لذاته والثّاني رفعه الله.

الفرّيسيون هم الفئة المتديّنة عند ​اليهود​، يتفاخرون بأصوامهم وصلواتهم، وحفظ الشّريعة عن ظهر قلب وتطبيقها. وكانوا يقدّمون عشر ما كانوا يكسبون مِن خيرات للرّب.(اللاويين ٣٠:٢٧).

لكنّهم كانوا يفعلون ذلك دون الرّوح. فوبّخهم الرّب بقوله: "ترَكْتُمْ الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ")متى ٢٣:٢٣). وشبّههم بالقبور المكلّسة، بخاصة أنّهم كانوا يتباهون بسلطتهم ويركضون خلف المكاسب والمناصب.

العشّارون مِن كلمة عشر. كانوا عديمي الرحمة، يجبون الضرائب المفروضة مِن السّلطة الرّومانيّة على الشّعب اليهوديّ، ويأخذون أكثر ما يحق لهم مِن عمولة، لذا كانوا يجنون أرباحًا طائلة، فكانوا محتقرين جدًا مِن قبل النّاس ومُعتَبرين خونة.

العبرة، الفرّيسي صعد إلى الهيكل بمركبةٍ يجرّها البِّر مِن الخارج، والكبرياء مِن الدّاخل، أمّا العشّار فبِمركبةٍ جرّتها الخطيئة مِن الخارج والاتّضاع من الداخل، إذ أدرك عيبه فلم يجرؤ أن يرفع رأسه.

ويُطرح السؤال هنا: كيف نأتي إلى الله؟ هل ندرك عيبنا؟ هل نحن مسيحيّون فرّيسيون؟.

مركبة التّوبة تنتظرنا، فلننطلق واضعين نصب أعيننا ما قاله القدّيس اسحق السّرياني: "من يعترف بخطاياه ويتوب عنها أعظم مِن الذي يقيم الموتى".

فإن تُبْنَا، عَبَرْنا.