كما كان متوقّعاً، حدّد رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ الثلاثاء والأربعاء المقبلَيْن موعداً لمناقشة ​البيان الوزاري​ لـ"حكومة مواجهة التحديات"، وفق التوصيف الذي أطلقه عليها رئيسها حسّان دياب، وبالتالي للتصويت على منحها الثقة، تمهيداً للمباشرة في العمل.

لكن، كما كان متوقّعاً أيضاً، فإنّ الإعلان عن موعد الجلسة، ولو جاء بعد تأكيد بعض أطياف المعارضة حضورها ولو من باب حجب الثقة، لم ينزل برداً وسلاماً على مجموعات ​الحراك الشعبي​، التي اختار الكثير منها "الثورة" على الجلسة، والتلويح بمنع انعقادها مهما كلّف الأمر، ولو تطلّب محاصرة النواب في بيوتهم.

وإذا كان هناك من يسأل، إزاء ذلك، عن إمكان عقد الجلسة في نهاية المطاف، بل عن "فاتورة" حصولها وتداعياته على المشهد العام، ثمّة من يسأل في المقابل، عن "جدوى" الدعوة إلى مقاطعتها، وبالتالي العمل على تعطيل المؤسّسات، التي تبقى أكثر من ضروريّة لتحقيق الحدّ الأدنى من المطالب التي يرفعها المتظاهرون في الشوارع...

بري مصرّ...

يبدو رئيس مجلس النواب نبيه بري مصرّاً، ومن خلفه الأكثرية النيابية، على أنّ ​جلسة الثقة​ بالحكومة ستُعقَد في موعدها، مهما كلّف الأمر، بقدر إصرار بعض المجموعات المدنيّة على تعطيلها، مهما كلّف الأمر أيضاً، أولاً لتفادي خلق إشكاليّة دستوريّة قانونيّة غير مسبوقة، وثانياً لمنع تكرار "طعنة" شلّ البرلمان ومنع انعقاده بقوة الشارع، كما حصل في تشرين الثاني الماضي، عندما اضطر لإرجاء جلسةٍ تشريعيّة كان قد دعا إليها.

فعلى مستوى السابقة الدستوريّة التي يرفض بري تكريسها، يتعلق الأمر بطبيعة الحكومة التي تشكّلت، وتنتظر الثقة البرلمانيّة للمباشرة بعملها وفقاً للدستور، الذي ينصّ على مهلة شهر يفترض أن تنجز خلالها بيانها الوزاري وتطلب الثقة على أساسه، ما يعني أنّ الكرة باتت في ملعب البرلمان اليوم، وعدم انعقاده لن يؤدّي سوى إلى خلق إشكاليّة حول طبيعة الحكومة، علماً أنّ عدم حصولها على الثقة يحوّلها إلى حكومة تصريف أعمال، بصلاحيّاتٍ ضيّقة، ما يعيد الأمور إلى المربّع الأول من جديد.

أما على مستوى "طعنة" الجلسة التشريعية، فالواضح أنّ بري يرفض بأيّ شكلٍ من الأشكال تكرار "سيناريو" منع عقد الجلسة، الذي قرأ فيه "تحدياً" له بوصفه رئيساً للبرلمان على وجه الخصوص، وهو ما لن يقبل بتكراره هذه المرّة، وهو أرسل أكثر من رسالة بهذا الخصوص على امتداد الأسابيع الماضية، "غامزاً" حتى من قناة الجيش و​القوى الأمنية​، وصولاً إلى حديثه عن "السبعة وذمّتها" لتأمين عقد جلسة مناقشة الموازنة الشهر الماضي، على رغم الاعتراضات الشعبيّة التي حصلت.

وإذا كان بري يراهن على "الاستنفار" الأمني لمنع تعطيل جلسة الثقة، خصوصاً أنّها تمثّل استحقاقاً دستورياً إلزامياً، وليس اختيارياً، نظراً لتبعات عدم حصوله القانونية، فإنّه يراهن أيضاً على مواقف ​الكتل النيابية​ المعارضة، التي تبدو بمعظمها ميّالة إلى حضور الجلسة، لا مقاطعتها، وهو ما أعلنته كتل "المستقبل" و"اللقاء الديمقراطي" و"الجمهورية القوية"، ليبقى سلاح "المقاطعة" مرفوعاً من جانب بعض الكتل الصغيرة، أو النواب المستقلّين، على غرار النائب بولا يعقوبيان.

ما المطلوب؟!

بالنسبة إلى رئيس مجلس النواب، يبدو الأمر محسوماً إذاً، وأنّ جلسة الثقة ستُعقَد "بمن حضر"، وأنّ كلّ الترتيبات اتُخِذت من أجل ذلك، حتى لو تراجعت بعض الكتل المعارضة، على غرار "القوات"، عن موقفها في ربع الساعة الأخير، واختارت "المقاطعة" في سبيل "التناغم" مع الشارع، وهو جاهزٌ لاختصار الجلسة لإنهائها في يومٍ واحدٍ كما حصل في جلسة الموازنة، ولو تطلّب ذلك اختصار عدد طالبي الكلام من النواب، ولا سيما المحسوبين على الموالاة.

لكن، أبعد من "مصير" الجلسة المُحاصَرة حتى إشعارٍ آخر، ثمّة في محيط بري من يسأل عن "جدوى" ما يسمّيه "الانقلاب على الدستور" عبر تعطيل جلسة الثقة، بل عمّا إذا كان المتظاهرون يريدون أصلاً تحقيق أيّ من مطالبهم، وكلّها تتطلّب وجود حكومةٍ أصيلةٍ حائزةٍ على الثقة، وإلا فإنّ الأمور ستراوح مكانها، بل ستعود إلى المربّع الأول، الذي تسبّبت به استقالة الحكومة السابقة، ما سيُدخِل البلاد مجدّداً في "متاهات" البحث عن تركيبةٍ حكوميّةٍ جديدةٍ، على رغم أنّ الظروف الحاليّة لا تسمح بأيّ "مماطلةٍ" من هذا النوع.

وإذا كان المتظاهرون يستغربون إصرار "ممثلي الشعب" على تخطي "إرادة" موكّليهم، عبر الإصرار على المشاركة في جلسةٍ يرفضها من أعطوهم الوكالة، وفي وقتٍ يشرحون موقفهم بأنّ "خريطة الطريق" التي رسموها للحلّ كانت واضحة، وتتطلّب أولاً تشكيل حكومة اختصاصيّين مستقلّين لمرحلةٍ انتقاليّةٍ يتمّ فيها التحضير لانتخاباتٍ مبكرة، ليصطدموا بحكومةٍ جلّها من "المستشارين والوكلاء" الذين سمّتهم الأحزاب نفسها، فإنّ هناك من يرى في المقابل أنّ دور المتظاهرين في المرحلة المقبلة، ينبغي أن يركّز على "الضغط" على الحكومة لتحقيق المَطالِب، لا "تطييرها" من دون أيّ "ضماناتٍ" للمرحلة المقبلة.

فإذا كان "الثوّار" يسعون فعلاً إلى انتخاباتٍ مبكرةٍ مثلاً، فإنّ الأمر يتطلّب أولاً وقبل كلّ شيء، حكومة أصيلة للتحضير لها، بمُعزَلٍ عن كلّ التفاصيل الأخرى، حتى لو توافق المتظاهرون على أن تجري هذه الانتخابات وفق القانون الانتخابي القديم، وهو لا يعكس واقع الحال، في ضوء المطالب بتعديل القانون، الأمر الذي يجب أن يمرّ من خلال الحكومة، ومن ثمّ البرلمان، الذي يشكو رئيسه أنّه بات بحكم "المشلول"، وهو الذي يصرّ على أنّ الجلسة التشريعية الأخيرة كانت مخصَّصة لتحقيق بعض مطالب المتظاهرين، فإذا بهم يرفضون عقد أيّ جلسة، وكأنّ "الفراغ" هو الحلّ.

أيّ "انتصار"؟!

لا شكّ أنّ للمتظاهرين الناقمين على الطبقة السياسية أسبابهم الموجبة التي تحتّم عليهم التصدّي لجلسةٍ بعنوان منح الثقة لحكومةٍ يعتبرون أنّها ساقطة شعبياً، وأنّها لا تلبّي الحدّ الأدنى من متطلباتهم، ولا تعكس بالتالي سوى إصرار الأحزاب السياسية على التسلط بحكم الأمر الواقع، المعمول به منذ ​اتفاق الطائف​ حتى اليوم.

ولا شكّ أيضاً أنّ مواجهة السلطة لخطط المتظاهرين، تارةً عبر "تخوينهم" واعتبارهم جزءاً من "مؤامرة كبرى" تستهدف البلد، وطوراً عبر تحميلهم مسؤولية "انهيارٍ" تدرك قبل غيرها أنّ أيديها جنته قبل اندلاع "الثورة"، تفتقد بدورها إلى الحدّ الأدنى من "المنطق" الذي يجب أن يُعتمد، مع غلبة منطق "التحدّي" على ما عداه.

هكذا، يتحوّل الأمر إلى لعبة "شدّ حبال"، ويصبح عقد الجلسة هو "التحدّي الكبير"، الذي ترى السلطة في تجاوزه "انتصاراً"، قد يحجب الأضواء عن الثقة "الهزيلة" التي ستحصل الحكومة عليها، فيما يعتقد المتظاهرون أنّ منعه هو "الانتصار"، ربما من باب رفض "الخضوع" للسلطة وأهوائها.

لكن، لا عقد الجلسة ولا تعطيلها سيحقّق الرخاء للبنانيين، أو بالحدّ الأدنى سيمنع "الانهيار" الذي أمسى جزءاً من يوميّاتنا، فيما المطلوب مقاربة أكثر عمقاً، تتجاوز المكاسب والخسائر الآنية، خصوصاً أنّ الوطن برمّته على المحكّ...