عندما نسج كلّ من رئيس "التيار الوطني الحُرّ" وزير الخارجية السابق ​جبران باسيل​، والمدير السابق لمكتب رئيس "تيّار المُستقبل" ​نادر الحريري​، بُنود "التسوية الرئاسيّة"، ظنّ الجميع أنّ هذا التفاهم سيستمرّ طوال عهد رئيس الجمهوريّة العماد ​ميشال عون​، وأنّ رئيس "المُستقبل" رئيس ال​حكومة​ السابق ​سعد الحريري​ سيكون على رأس السُلطة التنفيذيّة طوال عهد الرئيس عون. لكنّ الخلافات والتباينات المُستترة بين الطرفين على مدى نحو ثلاث سنوات، تفجّرت فجأة ومن دون مُقدّمات مُسبقة، بعد أحداث 17 تشرين الأوّل الماضي، لتتحوّل العلاقة بين تيّاري "المُستقبل" و"الوطني الحُر" من تقاسم للسُلطة وللمناصب، إلى مُحاولات إبعاد مُتبادلة عن الحُكم، ثم إلى حملات سياسيّة وإعلاميّة مُركّزة، مُرشّحة للتزايد خلال المرحلة المُقبلة. فما هي أبرز أسباب تدهور علاقة المُستقبل–التيّار، وماذا عن والمخاطر الكُبرى الآتية؟.

بالنسبة إلى أبرز الأسباب، فهي تُختصر على الشكل التالي:

أوّلاً: خلافات مُستترة تراكمت مع الوقت، خلال مرحلة إدارة الحكم بين ثنائيّة الحريري–باسيل، بالنسبة إلى أكثر من ملفّ سياسي، ومنها مثلاً ملفّ ​النازحين​ السُوريّين، وإلى أكثر من ملفّ إقتصادي، ومنها مثلاً ملفّ ​الكهرباء​ وبواخر ​الطاقة​.

ثانيًا: حرب صلاحيّات مُستترة حينًا، ومَفضوحة حينًا آخر، بين رئاسة الجمهوريّة من جهة، و​رئاسة مجلس الوزراء​ من جهة أخرى، علمًا أنّ تصرّف وزير الخارجيّة كوزير ملك بصلاحيّات مُطلقة، زاد من سوء التفاهم المَذكور.

ثالثًا: فشل رئيس "التيّار الأزرق" في تسيير دُفّة الحُكم بسبب الخلافات المفتوحة والنزاعات المُتواصلة مع رئيس "التيّار البرتقالي"، في الوقت الذي نجح فيه رئيس الحكومة السابق فيربط نزاعه مع "​حزب الله​"، وفي فصل تموضعه الإقليمي المُناهض للنظام السُوري، عن ​مسيرة​ حُكمه في ​لبنان​.

رابعًا: إخراج الحريري من السُلطة بعد إنتفاضة الشارع، وذلك بسبب إصرار رئيس "تيّار المُستقبل" على أن يترأس حكومة خالية من الوزراء السابقين، وفي طليعتهم وزير الخارجية السابق، رئيس "التيار الوطني الحُرّ"، الأمر الذي رفضه هذا الأخير، رابطًا خروجه بخروج الحريري نفسه، قبل أن يتمكّن باسيل–وبمُجرّد أن إنقلبت الموازين في غير صالح تكليف الحريري، نتيجة سوء علاقاته الداخليّة والإقليميّة وبفعل ضغوط الشارع، إلى إعلان رفض تكليف رئيس "التيّار الأزرق"، وإلى العمل من وراء الكواليس لتأمين البديل الذي رسا في نهاية المطاف على الدُكتور حسّان دياب، بالتزامن مع إقناع "​الثنائي الشيعي​" بخياره.

خامسًا: التحضير لإستبدال مجموعة من المسؤولين الرسميّين والإداريّين المَحسوبين على "التيّار الأزرق"، وتركيز حملات "التيّار" ومجموعة من الصحافيّين والإعلاميّين المُحسوبين على خطّه السياسي، على ملفّات فساد تُدين هؤلاء.

سادسًا: مُحاولة "التيّار الوطني الحُرّ" تحميل "تيّار المُستقبل"،وكذلك ما إصطلح على تسميته "الحريريّة السياسيّة"، مسؤوليّة التدهور الكارثي الذي بلغه الوضع في لبنان على مُختلف الصُعد، بحجّة إعتماد سياسات إقتصادية وماليّة غير صحيحة، منذ وُصول رئيس الوزراء الراحل ​رفيق الحريري​ إلى الحُكم في العام 1992، والتي إستمرّت بقيادة مُختلف رؤساء الوزراء المُعيّنين من قبل "المُستقبل"، الأمر الذي شكّل النقطة التي أفاضت كوب الخلافات بين التيّارين الأزرق والبرتقالي.

ومن الضروري الإشارة إلى أنّ تدهور العلاقات الثنائيّة بين "المُستقبل" و"الوطني الحُرّ"، لا يقتصر على هذين التيّارين اللذين يتمتّعان بتمثيل واسع، كلّ ضُمن بيئته الطائفيّة والمذهبيّة، وإنما سيكون له إنعكاسات سلبيّة على مُجمل الوضع الداخلي، وسيُدخل لبنان في مزيد من الخلافات والإنشقاقات والمشاكل. والأكيد أنّ الأخطر آت، باعتبار أنّ رئيس "التيّار الوطني الحُر" الذي كان يُعوّل على تفاهمه مع "تيّار المُستقبل" لحجز مكانه في معركة رئاسة الجُمهوريّة المُقبلة، خسر هذه الورقة، ويُستبعد جدًا أن تعود في تفاهم جديد، لأنّ عدد الجهات التي تعمل من اليوم على عرقلة وُصول باسيل إلى منصب الرئاسة كبير جدًا. فعلى الساحة المسيحيّة، إنّ حزبي "​القوات​ اللبنانيّة" و"​الكتائب​ اللبنانيّة" بعيدين كل البُعد عن هذا الخيار، في حين أنّ رئيس "تيّار ​المردة​" الوزير السابق سليمان فرنجيّة، يعتبر أنّه إنتظر طويلاً لخوض هذه المعركة، وأنّه تنازل لصالح العماد ميشال عون في ​الدورة​ الماضية، إكرامًا لطلب "حزب الله". وعلى الضفّة الأخرى، إنّ حجم الإعتراض على وُصول رئيس "التيّار الوطني الحُر" يشمل قوى إسلاميّة عدّة، وفي طليعتها "​الحزب التقدمي الإشتراكي​"، علمًا أنّ إنضمام "المُستقبل" إلى هذه المروحة الواسعة من الإعتراضات، يجعل وُصول باسيل إلى منصب الرئاسة مُستحيلاً، مهما بلغت ضُغوط "حزب الله"–إذا ما سلّمنا جدلاً أنّه يريد هذا الخيار، ونجح في إقناع حلفائه في "​حركة أمل​" وفي "​الحزب القومي​ السوري" وسواهما به. وبالطبع إنّ رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" لن يقف بدوره مكتوف الأيدي أمام مُحاولات إبعاده وتحجيمه، وهو سيُحاول مع تيّاره، تحميل "المُستقبل" وزر الإنهيار الحاصلوالسعي لفتح ملفّات مسؤوليه، الأمر الذي سيردّ عليه "المُستقبل" بحملة مُضادة على "التيّار البرتقالي" ستبدأ معالمها بالظُهور في كلمة الحريري في ذكرى مهرجان "​14 شباط​" يوم الجمعة المُقبل. والحملات بين الطرفين ستتصاعد تدريجًا خلال المرحلة المُقبلة، طالما أنّ الحريري خارج السُلطة، وُصولاً إلى محطة الإنتخابات الرئاسيّة المُقبلة...

في الختام، صحيح أنّ معركة رئاسة الجُمهوريّة لا تزال بعيدة، ومحطّة الإنتخابات النيابيّة المُقبلة تسبقها–حتى من دون إجراء إنتخابات مُبكرة، الأمر الذي قد يُبدّل في التوازنات السياسيّة داخل المجلس، لكن ليس بشكل جذري يسمح لأي طرف أو لطرفين بالإستئثار بالقرارات. وعلى العكس من ذلك، التوقّعات الأوّليّة تتحدّث عن أنّ أي تغيير مُحتمل في أي إنتخابات مُقبلة، سيكون لصالح تراجع الحُصص الحزبيّة، لصالح نوّاب مُستقلّين. وفي كلّ الأحوال، لبنان يُعاني من أزمة إقتصاديّة-مالية حادة وبالغة الخُطورة، ولا شكّ أنّ إضافة الخلافات السياسيّة إلى الوضع الداخلي، لن يُساهم سوى في إغراق لبنان واللبنانيّين بمزيد من المشاكل، بعيدًا عن العمل على الوُصول إلى الحُلول الحياتيّة والمعيشيّة المنشودة اليوم قبل الغد، للأسف الشديد.