أخيراً، انتهت "معركة" الثقة في ​مجلس النواب​، لتبدأ حكومة حسّان دياب، أو حكومة "مواجهة التحديات" كما سمّت نفسها، بتحقيق وعودها، من خلال الأفعال لا الأقوال، بعيداً عن التلهّي بتصريف أعمالٍ من هنا، وبسجالاتٍ كلاميّة لا تنتهي من هناك، ولو أنّها تنطلق بأكثرية أقلّ من متواضعة، لم تتجاوز نصف عدد أعضاء البرلمان.

يعتقد كثيرون أنّ هذه "المعركة" التي تنقّلت بين الشارع والمجلس انتهت بـ "أقلّ الأضرار"، إلا أنّ مثل هذا الكلام يفتقد الكثير من "الواقعية"، ليس فقط لأنّ الصورة غير الورديّة للشارع أظهرته في مكانٍ ما فيما ممثّلوه المفترضون في "النقيض" تماماً، ولا حتى لأنّ "هيبة" النواب التي لطالما تحصّنوا بها سقطت بالضربة القاضية، كما ظهر على الملأ بالأمس.

قبل هذا وذاك، وربما ما هو أخطر بكثير منه، أنّ "الهيبة المفقودة" جاءت لتعكس واقعاً مُرّاً للموالاة والمعارضة على حدّ سواء، فمجريات ​جلسة الثقة​ لم تكن في صالح أيّ منهما، بل إنّ "الرسوب" يكاد يكون "الجامع" الوحيد بينهما، ما يتطلّب مراجعةً نقديّةً سريعة من قياداتهما، وقبل فوات الأوان...

أكثرية عاجزة؟!

الأكثرية النيابيّة باتت تنتحل صفة الأكثرية. قد يكون هذا الاستنتاج منطقياً وطبيعياً بعد مجريات جلسة الثقة، التي أظهرت بشكلٍ مفاجئٍ للجميع، أنّ هذه الأكثرية لم تعد أكثرية، أو أنّها بالحدّ الأدنى باتت تعاني من "عجز" حقيقيّ، ليس أدلّ منه عدم حصول ​الحكومة​ التي "ترعاها" علىثقة نصف عدد أعضاء البرلمان، في مفارقةٍ مثيرة للانتباه، ما يعني أنّها كان يمكن أن تُمنى بـ"الهزيمة" لو أنّ النصاب كان مكتملاً.

وإذا كانت هذه النتيجة تدلّ على شيء، فعلى أنّ ما تتّهم الأكثرية به خصومها في المعارضة، بل ما تصل إلى حدّ السخرية منه، لناحية "التشتّت" بين الحلفاء المفترضين، بات من "الثغرات" الأساسيّة الموجودة ليس بين بعضها بعضاً فحسب، ولكن حتى داخل الحزب والكتلة الواحدة، ولعلّ السجال الناريّ الذي دار بين عضوي تكتل "​لبنان القوي​" ​زياد أسود​ و​ميشال معوّض​ كافٍ للدلالة على ذلك، معطوفاً على "تغريد" العديد من النواب خارج سرب كتلهم، كما فعل معوض، وكذلك النائب ميشال الضاهر، وسواهما من النواب.

لكنّ كلّ ذلك يصبح ثانوياً أمام الهمّ الأساسيّ الذي حصرت الأكثرية النيابية نفسها به على هامش جلسة الثقة، ألا وهو تأمين النصاب لا أكثر ولا أقلّ، وهو ما يفترض أن يكون عملية تلقائية لأيّ أكثريةٍ حقيقيّةٍ، إلا أنّه لم يكن كذلك، بل إنّ هذه الأكثرية "رسبت" في الامتحان، ولم تنجح في تخطّيه، إلا عبر الاستعانة بـ"الأصدقاء" المتموضعين في خانة المعارضة، وتحديداً نواب "​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، وبعدهم نواب "المستقبل" و"​القوات اللبنانية​" الذين أصرّوا على عدم الحضور إلا بعد اكتمال النصاب.

ولعلّ الأسوأ من كلّ ذلك ما يُحكى عن أنّ هذا النجاح لم يكن حقيقياً، وأنّ الأكثرية خالفت القانون لتمرير الجلسة، خشية أن يُقال إنّ الحراك الشعبيّ "انتصر" عليها عبر تعطيل الجلسة التي كان رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ يؤكد أنّها ستحصل، وخير دليلٍ على ذلك ما قاله النائب ​وائل أبو فاعور​ عن أنّ نواب "​اللقاء الديمقراطي​" الذين احتسبهم بري ضمن "مؤمّني النصاب" لم يدخلوا إلى القاعة العامة سوى بعد انطلاقة الجلسة، وهو ما فتح الكثير من علامات الاستفهام حول "دستوريّة" الجلسة ككلّ، وإمكانيّة الطعن بها من الأساس.

معارضة تواجه نفسها!

سقطت الأكثرية إذاً في "امتحان" جلسة الثقة، بعدما فشلت في "الحشد" لتأمين النصاب، من دون الاستعانة بالخصوم، واضطرت لمخالفة القانون في سبيل عدم "تطيير" الجلسة، وبعدما عجزت عن إعطاء "حصانةٍ" كافيةٍ للحكومة التي أتت بها، والتي حازت على ثقةٍ لم ترقَ لمستوى الأكثرية المُطلَقة للبرلمان، وهي ثقةٌ أقلّ من هزيلة، ولو أنّها تكفي قانوناً، باعتبار أنّ ​الدستور​ ينصّ على فوز الحكومة بالثقة، بمجرّد حصولها على نصف عدد أعضاء الحاضرين، لا كامل النواب.

لكنّ "السقوط" لم يكن نصيب الموالاة والأكثرية فقط بنتيجة امتحان "الثقة"، إذ إنّ واقع المعارضة لا يبدو أفضل حالاً على الإطلاق، فبدل أن تكون معاركها على هامش جلسة الثقة محصورة بالتصويب على الحكومة، ومن خلالها على الموالاة، انشغلت بالتصويب على بعضها بعضاً، فيما ارتفع مستوى "المزايدات" في داخلها إلى الحدّ الأقصى، وكأنّ كلّ همّ المعارضة بات منصبّاً على "الشعبويّة" في سبيل اكتساب الشارع.

هكذا، كان الشغل الشاغل لـ "​الكتائب اللبنانية​" مثلاً التصويب على نظرائها في المعارضة، ممّن اختاروا المشاركة في الجلسة "رغماً عن الشعب"، فيما اختارت "القوات اللبنانية" ردّ الصاع صاعين عبر رفض "المزايدات" التي لم تعد تنفع، في غمزٍ من قناة "الكتائب" أولاً وأخيراً. وفي وقتٍ انشغل "​تيار المستقبل​"، ومعه "القوات"، بمحاولة استقطاب الشارع، عبر "التحرّر" من عبء تأمين النصاب، من خلال الإصرار مراراً وتكراراً على عدم الدخول إلى القاعة العامة إلا بعد تأمين الأكثرية له، كان لافتاً تصويب النائب السابق ​وليد جنبلاط​ على الجميع، ولا سيّما "القوى السياسية التي تدّعي معارضتها لهذه الحكومة"، كما قال، متّهماً إياها بالالتقاء مع من يريد تصفية الحسابات "من أجل أن تبقى هي بريئة من دم الصديق".

وإذا كان "الجدل" حول النصاب وتأمينه هو الذي شغل بال المعارضة أكثر من أيّ شيءٍ آخر على امتداد يوم الثقة، في مؤشّرٍ لا يدلّ سوى على "الضعف"، ثمّة من رأى أنّ هذا "الضعف" كان يمكن أن يتحوّل إلى "قوة"، لو أنّ هذه المعارضة اختارت القفز فوق خلافاتها الشخصيّة، ولو أنّها اتّحدت. ولعلّ وجهة النظر هذه تحتمل الكثير من الصحّة، بالنظر إلى مستوى الثقة "الهزيلة" التي حصلت عليها الحكومة، ما أوحى أنّ القدرة على "حجب" الثقة كانت متوافرة، ولو أنها ضئيلة، لو أنّ المقاطعين حضروا الجلسة، خصوصاً أنّ "تطيير" الجلسة لم يكن ليحقّق شيئاً سوى التأجيل، في حين أنّ وقع حجب الثقة كان ليكون أقوى، خصوصاً إذا ما قارع عدد مانحيها، ولو لم يتجاوزه.

المصلحة أولاً!

على امتداد الأيام الماضية، كان "الجدل" يتركّز في أوساط ​الكتل النيابية​ حول "جدوى" حضور جلسة مناقشة البيان الوزاريّ من عدمه. ومع أنّ هذا "الجدل" استمرّ على هامش الجلسة، إلا أنّه انطوى مرّة أخرى على "مفارقة" مثيرة للجدل، تتمثّل في تحكّم "المصلحة" بكلّ المواقف.

هكذا، كان لافتاً أن "يصارع" من أجل "تطيير" الجلسة بعض من كانوا حتى الأمس القريب، ينتقدون "البدعة" التي أسّسها "​التيار الوطني الحر​" في جلسات انتخاب ​رئيس الجمهورية​، عبر "تطييرها" حتى ضمان فوز مرشحه، تماماً كما كان لافتاً انتقاد "التيار" لتعطيل المؤسّسات، عبر السعي إلى تعطيل الجلسة، وهو الذي صنّف هذا الأسلوب "ديمقراطياً" إبان ​الفراغ الرئاسي​.

شيءٌ واحدٌ يبقى أكيداً وسط كلّ ذلك. القوى السياسية لم ولن تتغيّر، ومصلحتها تعلو ولا يُعلى عليها في قاموسها، وخير دليلٍ على ذلك، تلهّيها منذ الجلسة بالبحث عن "انتصاراتٍ وهميّةٍ" تسجّلها على بعضها، وكأنّ البلاد بألف خير، ولا انهيار ولا من يحزنون!.